كتبتُ أكثر من مرة في هذه المساحة عن اجتماع القمة العربية وقلت ألَّا جدوى من الاستمرار في عقدها أو استضافتها.
بعد أن كانت «شرفا» للدولة المضيفة ومصدرا للتسويق الدبلوماسي والسياسي وحتى السياحي، أصبحت القمة في السنوات الأخيرة عبئا ثقيلا ومحرجا للدولة المضيفة وللرؤساء والقادة المدعوين.
السبب يكمن في هذه التوترات المتتالية التي تشهدها المنطقة العربية والأزمات العميقة والمتداخلة، وكذلك الحضور المؤذي لأطراف إقليمية ودولية تلعب أدوارا أكبر من أدوار الحكومات العربية، بعضها تخريبي خطير، لكن غالبا بتواطؤ عربي.
يوميا أزدادُ قناعة بأن مصلحة الجزائر كانت في التخلي عن استضافة القمة المقبلة المرتقبة في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر). لن يكون ذلك، لو حدث فعلا، تنازلا أو تخاذلا أو هزيمة دبلوماسية، بل تصرفا حكيما.
اليوم لا توجد دولة عربية واحدة تقيم علاقات سَويَّة وقوية مع كل الدول العربية بلا استثناء. ويصعب إيجاد دولة عربية ليست طرفا في تكتل أو تحالف، علني أو سرّي، ضد دولة أو كتلة عربية أخرى.
مشاكل الدول العربية في ما بينها وتآمر بعضها على بعضها الآخر أخطر من تآمر الآخرين عليها.
حتى الدول «الكبرى» التي لُقِّنت شعوب المنطقة وصفها بـ«الشقيقة الكبرى» الوازنة وحافظة التوازن، مثل مصر، سقطت في فخ التكتلات والحسابات الضيّقة وفقدت رصيدها الذي راكمته على مدى عقود طويلة. باستثناء السعودية، التي تبني هي الأخرى علاقاتها مع الدول العربية من منطلق القوة والشعور بالتفوق، تعاني الدول العربية الأخرى في علاقاتها ببعضها من عثرات كثيرة وحلقات مفقودة.
كيف تُعقد قمة عربية في هذه الظروف المسمومة؟ وكيف تنتظر ممن يستضيفها أن يحقق معجزات؟ والأهم أستغرب أن توجد دولة تحرص على استضافة القمة وهي تعرف سلفا الألغام المحيطة بها ونتيجتها.
العلاقات بين الدول العربية تقوم اليوم على قاعدة تشبه في ظاهرها قاعدة «النفط مقابل الغذاء» التي أُجبر عليها العراق في التسعينيات، لكنها في عمقها «براغماتية» متوحشة وظالمة تقوم على الابتزاز والتنمر: الغني يساوم الفقير في لقمة عيشه ليجرّه إلى معسكره، الهانئ (ولو أن الهانئين قلّة قليلة) يبتز المأزوم، المستقوي بأمريكا وإسرائيل يتاجر بالضعيف أو المعزول، الجار الكبير يعبث بأمن جاره الصغير.. إلخ. وكمثال، لولا فشلها الاقتصادي وما ترتب عنه من ضائقة داخلية ومعاناة، يستحيل أن تفقد مصر سيادة قرارها الدبلوماسي وتنساق إلى هوى بعض دول الخليج العربية بكل هذه السهولة.
أتخيّل أن المسؤولين عن البروتوكول والقضايا التنظيمية في كل قمة يعانون الأمرَّين.. مَن يستحق استقبالا فاخرا وكيف، مَن يجلس قرب مَن، هل سيصافح فلان نظيره فلانا وغير ذلك من الأسئلة المحرجة التي من شأن الخطأ في تقديرها أن يسبّب أزمة دبلوماسية أو بروتوكولية.
كيف تُعقد قمة عربية في هذه الظروف المسمومة؟ وكيف تنتظر ممن يستضيفها أن يحقق معجزات؟ والأهم، أستغرب أن توجد دولة تحرص على استضافة القمة وهي تعرف سلفا الألغام المحيطة بها ونتيجتها.
الأسبوع الماضي شهد تحركات دبلوماسية عديدة في أكثر من عاصمة عربية أبرزها القاهرة. كان موضوع التحركات القمة العربية المقبلة في الجزائر. والهدف، كما راج في بعض التقارير، محاولة كسب إرجاء عقدها لا لأسباب تنظيمية ولكن بذريعة أن الظروف الإقليمية لا تسمح. لكن السبب الذي يحاول بعضهم إخفاءه هو اعتقاد بعض الأطراف العربية أن الدبلوماسية الجزائرية أصبحت مثيرة للجدل ولا تؤتمن، لأنها لا تنسجم مع المزاج الرسمي العربي الذي بات يغلب عليه الإصرار على معاداة إيران ومهادنة إسرائيل والاستسلام لهوى بعض دول الخليج العربية وأجنداتها الإقليمية.
في المطلق، الجزائر تستحق استضافة القمة. لكن في الظروف الموبوءة من المحيط إلى الخليج، يصبح الاستغناء عن استضافتها حكمة وأمرا مطلوبا. العقد العربي انفرط إلى الأبد. الشمل العربي المزعوم لن يُلَـم حتى لو أرادت كل الدول العربية ذلك واتفقت عليه، لأن مصير المنطقة وقرارها خرجا من أيدي سكانها من شعوب وحكام.
الجامعة العربية ماتت وأصبحت جثة هامدة لا أحد يهتم لأمرها عدا المستفيدون من ريعها وامتيازاتها، فوجبت المطالبة بتصفيتها.
الحقيقة الأخرى التي يرفض القادة العرب الإقرار بها هي التغييرات العميقة التي تشهدها المجتمعات العربية على الأصعدة الاجتماعية والثقافية والذهنية والديمغرافية وغيرها. هذه التغييرات تجعل من القمة العربية وتصورها وطريقة النظر إليها والتحضير لها وانعقادها رمزا لماضٍ بعيد فاشل ومؤلم بالنسبة لأطياف واسعة من المجتمعات العربية.
ما يجب أن نتذكّره أيضا أن القمة العربية التقليدية قتلتها القمم الإقليمية التي بدأت تتكاثر.. مرة بين مصر ودول الخليج، مرة أخرى بين دول الجوار العراقي، مرة ثالثة قمة الدول المطلة على البحر الأحمر، وهكذا. هذا ناهيك عن التأسيس لاجتماعات وزراء خارجية دول «الاتفاقات الإبراهيمية» التي تضم إسرائيل والمغرب والإمارات والبحرين ومصر، والتي من الوارد أن تصبح قريبا قمة على مستوى قادة الدول.
منذ أن فقدت القمة العربية جدواها، راح الاهتمام ينصب لا على مضمونها ونتائجها، لكن على مَن حضر ومَن غاب. أصبحت نوعية الحضور هي أداة الحكم بالفشل أو النجاح. حضور رؤساء وملوك الدول المؤثرة والغنية مرادف لنجاح القمة، وغيابهم مرادف لفشلها ومبعث شعور بالإهانة للدولة المستضيفة وسلطاتها.
حتى لمترصِّدي الجوانب الفلكلورية، غاب عن القمة من تعوّدوا على تسخين المسرح مثل معمر القذافي وعلي عبد الله صالح وحسني مبارك.
هناك أكثر من بوابة وطريق تستطيع من خلالها الجزائر، وأيّ دولة أخرى، استعادة زمام المبادرة الدبلوماسية وإسماع كلمتها، القمة العربية ليست من ضمنها، لا تنظيما ولا حضورا.