بعد أربع سنوات من المداولات القضائية، وبعد مضي خمسة وستين عاما وتسعة أشهر على مجزرة كفر قاسم، قررت محكمة الاستئناف العسكرية الإسرائيلية، يوم الجمعة الماضي 29/7/2022، السماح بالكشف عن بروتوكولات الجلسات السرية للمحكمة الخاصة بالمجزرة، التي وقع ضحيتها 51 مواطنا عربيا فلسطينيا، والتي اقترفت يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956، عشية العدوان الثلاثي على مصر. وأكدت الوثائق، التي جرى نشرها نهاية الأسبوع الماضي، صدق ودقة الرواية التي سردها الناجون وأهالي الضحايا والكتاب الفلسطينيون في العقود اللاحقة. وأبرز ما حملته في المستندات، حديثة النشر، هو أنها عمليا اعتراف إسرائيلي رسمي وموثق بأن الأوامر التي تلقاها الجنود كانت، «المطلوب أن يكون قتلى»، وبأن المجزرة كانت مرتبطة بخطة «الخلد» لتهجير أهالي المنطقة إلى الأردن، وكذلك بأن القتلة مارسوا جرائمهم ليس إطاعة للأوامر فحسب، بل عن وعي واقتناع بما فعلوه. بروتوكولات المحكمة الإسرائيلية، تثبت بشكل قاطع أن مجزرة كفر قاسم كانت مخططا مدروسا، وأن القتل كان عمدا ومع سبق الإصرار، وأن الهدف كان التهجير والتطهير العرقي. وكان الاعتقاد أن مجزرة في بلدة حدودية مثل كفر قاسم، ستؤدي إلى زرع الرعب ولجوء أهالي كل المنطقة إلى مناطق آمنة عبر الحدود مع الضفة الغربية، التي كانت حينها تحت السلطة الأردنية.
الأرشيف
جاء القرار القضائي العسكري بالسماح بنشر مئات الصفحات من بروتوكولات المحكمة، التي مثل أمامها العسكريون الذين اقترفوا المجزرة، بعد سنوات من المداولات في التماس المؤرخ الإسرائيلي آدام راز، الذي ألف كتابا عن تفاصيل وحيثيات مجزرة كفر قاسم، وأراد المزيد من المعلومات الموثقة لمواصلة بحثه العلمي. حتى بعد الكشف عن وثائق المحكمة، تبقى معظم المستندات المتعلقة بمجزرة كفر قاسم سرية وممنوعة من النشر، وذلك بادعاء أن الكشف عنها يضر بأمن «الدولة». وقد أعلنت السلطات الإسرائيلية أنها تسمح برفع غطاء السرية عن وثائق مؤرشفة، مضى عليها أكثر من خمسين عاما، إلا أن المعايير لفتح الملفات القديمة، يُبقي معظم الوثائق المهمة طي الكتمان. ومن هذه المعايير عدم نشر وثائق لها علاقة بالقتل، من دون مبرر وبالتهجير وبأعمال الاغتصاب والنهب والتخابر وكل ما من شأنه أن يهدد أمن إسرائيل ومصالحها الحيوية. لا يدل فتح قسم من ملفات مجزرة كفر قاسم على تغيير في السياسات الإسرائيلية، تجاه الحاضر وتجاه التاريخ والتأريخ، حيث إن نسبة الوثائق المفتوحة، التي تدين إسرائيل ضئيلة جدا مقارنة بتلك التي تدعم الرواية الرسمية. وهكذا فإن كتابة مؤرخي التيار المركزي في إسرائيل وأمثالهم في العالم، تستند إلى معلومات انتقائية «مريحة» توظف لجعل المجرم ضحية. وإذا كانت هناك «تفاصيل» لا تستوي مع هذه الرواية الرسمية، فيجري ليها لتستوي معها. وتجري عملية لَي الحقيقة في الرواية الصهيونية والتأريخ الإسرائيلي (بتياره المركزي) عبر التأويل المشوه، حيث تجري عملية مقارنة وثيقة «صعبة» بوثائق «مريحة» متوفرة بكثرة وعبر التهميش الخبيث، حيث يقال عادة «هذا انحراف وخطأ مؤسف في مسيرة الصهيونية الأخلاقية والتحررية، ويأتي كرد فعل على الاعتداء الفلسطيني». ويأتي مثل هذا الاعتراف (النادر جدا) لكسب النقاط.
صدقية حكاية شعب فلسطين ليست بحاجة إلى إسناد من الأرشيف الإسرائيلي، فهي تنطلق من مبدأ عابر للتاريخ وللجغرافيا وهو أن رواية الضحية صادقة ورواية المجرم كاذبة، فالضحية مصلحتها الكشف عن الحقيقة ومصلحة المجرم معاكسة تماما. الحكاية الفلسطينية متماسكة ومنسجمة مع ذاتها، حتى لو كانت مبعثرة بحكم التشتت الفلسطيني، وبحكم الطابع المتقطع لرواية الضحية مقارنة بالطابع الخطي المتواصل لرواية المجرم المنتصر. ولكن هذا يضعنا أمام معضلة مع العالم الأكاديمي في الغرب، الذي يستند إلى معايير دلالية، صاغها الغرب المنتصر، ولا تصلح لسرد رواية ضحية تبعثرت «وثائقها» وشهاداتها أيدي سبأ. فحتى الأرشيف الفلسطيني المتواضع دمرته إسرائيل مرتين، مرة في نكبة 1948، والثانية خلال الحرب على لبنان سنة 1982، ناهيك من محو البلدات الفلسطينية المهجرة عن وجه البسيطة. تكمن أهمية ما ينشره المؤرخون الجدد الإسرائيليين من أبحاث، استنادا إلى المستندات الأرشيفية الشحيحة المتاحة، في إقناع العالم الأكاديمي في الغرب وفي مخاطبة الجمهور الإسرائيلي. فالمأساة أن الفلسطينيين يقولون مثلا إنه كانت مجزرة في قرية الطنطورة الساحلية، ولكن يجب أن يأتي مخرج أو كاتب إسرائيلي ليكون هناك صدى عالمي لقصة المجزرة. أما تأثير النشر عن جرائم الصهيونية على المجتمع الإسرائيلي نفسه، فهو هامشي، وعادة ما يقابل بالإنكار أو بالاحتواء على أساس انه ليس أكثر من خطأ هامشي في مسيرة الصهيونية «العظيمة».
المجزرة والتهجير
لم تكن مجزرة كفر قاسم انحرافا عن المسيرة الصهيونية، كما ادعت وتدعي الأبواق الإسرائيلية، بل انسجمت بالمسار المركزي، وجاءت استمرارا لما قبلها من مجازر وفي سياق العنف الإسرائيلي «العادي». لقد كشفت بروتوكولات المحكمة، التي نشرت الأسبوع الماضي، أن «قيادة المجزرة» كانت على اطلاع على خطة «الخلد (الحيوان)»، القاضية باستغلال مواجهة عسكرية مع الأردن لترحيل أهالي كفر قاسم وكل منطقة المثلث، وتدل البروتوكولات على أن الهدف كان القتل لأجل الترحيل، وكانت له «مبررات عقلانية» مستوحاة من استراتيجيات وسياسات بن غوريون الذي كان الزعيم الأوحد لإسرائيل في تلك الأيام، وجاءت في سياق «مجازر التهجير»، التي ارتكبتها الهجاناه وغيرها خلال نكبة فلسطين، التي مر عليها حينها ثماني سنوات، وكانت قيادة الجيش الإسرائيلي هي نفسها التي أدارت حرب 1948.
من المهم الإشارة هنا إلى أن بن غوريون عرض على الإنكليز، عشية العدوان الثلاثي على مصر، أن تقوم إسرائيل باحتلال الأردن وبتقسيمه مع العراق. ورفضت القيادة البريطانية هذا الاقتراح، لكنها وعدت بن غوريون بعدم التدخل، إذا بادر الأردن إلى المشاركة في الحرب وقامت إسرائيل باحتلاله. ولا تتوفر حتى الآن وثائق كافية للاطلاع على تفاصيل خطة بن غوريون، لكن من المؤكد أن نشر قوات عسكرية على طول الحدود مع الأردن، قبل العدوان الثلاثي كان بهدف مزدوج وهو التمويه، والرد القوي في حال تدخل الأردن في الحرب. ولم ينفذ من الحرب المحتملة مع الأردن، كان مجزرة كفر قاسم، التي بقيت حاضرة في الأوامر العسكرية، رغم عدم حدوث الحرب!
أحصدوهم!
ارتكبت القوات العسكرية الإسرائيلية مجزرة كفر قاسم في اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر، وبدأ تسلسل الأحداث بفرض منع التجول من الساعة الخامسة مساءً حتى السادسة صباحا، وجرى إبلاغ المختار نصف ساعة قبل سريان مفعوله. وحين سأل المختار الضابط، ما العمل مع العمال الموجودين خارج القرية، أجابه بأنه سوف «يهتم بأمرهم»، ولم يتخيل المختار فظاعة هذه الكلمات. لقد كانت الأوامر العسكرية واضحة: «أطلقوا النار على كل من «يخرق» وقف إطلاق النار، لا نريد معتقلين». وحين سئل المقدم شيدمي قائد المنطقة، حول العمال العائدين من العمل أجاب بالعربية «الله يرحمهم!». وهكذا عندما عاد الناس من العمل انتظرتهم الوحدات العسكرية الإسرائيلية في المدخل وقامت بقتلهم بدم بارد، فرادى وجماعات. وعاد العمال من العمل في تسع موجات وصدرت الأوامر الميدانية: «أحصدوهم!» وكان أحد قادة السرية يبلغ رؤساءه أولا بأول، «ناقص ثلاثة عرب».. «ناقص خمسة عرب» وهلم جرا حتى وصل العدد إلى 49 شهيدا في كفر قاسم، وسقط كذلك شهيد في الطيبة وشهيد آخر في الطيرة، ووصل عدد الضحايا إلى 51 شهيدا، إضافة إلى شاب من باقة الغربية اختفت آثاره في ذلك اليوم المشؤوم.
أول ما قامت به حكومة بن غوريون هو تشكيل لجنة «تحقيق» لتبرئة القيادة السياسية والقيادة العسكرية العليا من المسؤولية عن المجزرة. ومثل أمام المحكمة، التي نشرت بروتوكولاتها الأسبوع الماضي، عدد من الجنود والضباط، ورغم وجود أدلة دامغة حول القتل المتعمد والتخطيط له على مستوى القيادات العسكرية في المنطقة، إلا أن العقاب كان خفيفا جدا وتراوح بين غرامة قرش واحد، فرضت على المقدم شيدمي، الذي قال «الله يرحمهم» إلى ثلاث سنوات سجن فعلي قضاها الضابط مالينكي المدير الميداني للمجزرة، وبحلول عام 1960 لم يبق من المجرمين أحد في السجن.
العنف «العقلاني»
يستدل من بروتوكولات المحكمة أن مقترفي الجريمة، لم ينصاعوا للأوامر فحسب، بل كانوا على قناعة تامة بأنهم ينفذون ما يخدم الصهيونية، وما هو خير لشعب إسرائيل، ويبرز أيضا أن المذبحة لم تكن بدافع الانتقام أو الجنون أو «التسلية»، بل جاءت برأيهم لتخدم هدفا واضحا هو إخضاع الفلسطينيين وترحيلهم، حيث ورد في شهادة أحدهم أن القتل سيجعل العرب الفلسطينيين في المنطقة «نعجات مطيعة» أو أن الرعب سيدفعهم إلى الهرب. إسرائيل هي بلد الادعاءات والتبريرات، وهي على الدوام مرجعية ذاتها وتحكم على الأمور بمعايير تضعها بنفسها لنفسها. والمقولة المركزية عندها هي أن العنف الإسرائيلي مبرر أخلاقيا لأنه ليس عنفا لأجل العنف، بل لتحقيق غايات سامية مثل الدفاع عن النفس وتحقيق الأحلام والمشاريع الصهيونية. وإذ تجد إسرائيل صعوبة في تبرير مجزرة كفر قاسم بأساليبها التقليدية، فهي تلجأ إلى خدعة مركبة، فهي تعترف بالخطأ وتأسف لوقوع ضحايا وتعمل، بالموازاة، على استثمار هذا «الأسف» لتبرير بقية جرائمها وتحيل ما حدث إلى ماض قضى وانتهى. ولكن الواقع يدل على العكس تماما، حيث ما زالت العقلية التي تنتج المجازر حاضرة وبقوة أكبر. يكفي أن نذكر القصف الفظيع على غزة عام 2014، حيث سقط 2200 شهيد فلسطيني، وبينهم أكثر من 500 طفل. والتبرير الإسرائيلي لهذه الجريمة البشعة «عقلاني»، حيث الادعاء بأن إسرائيل لا تستهدف المدنيين، بل «إرهابيين» يختبئون بين المدنيين. ويقبل الجمهور الإسرائيلي هذا التفسير، من دون نقاش، وتردده أوساط غربية تدعي الحرص على الديمقراطية بالادعاء القاتل القائل بالدفاع النفس.
قضية كفر قاسم تنسف كل الادعاءات الإسرائيلية، وعلينا أن نرفض أسفهم واعتذارهم، فلا معنى للاعتذار إذا كانت الجريمة مستمرة، وهو أسوأ من الإنكار حين يستغل لتبرير جرائم أخرى كثيرة. ويقتضي الواجب الوطني والأخلاقي أن نُثبِت ونثبت أن كفر قاسم هي القاعدة وليست الاستثناء.
(القدس العربي)