حظيت زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة باهتمام واسع من قبل قطاعات عديدة: إعلامية وسياسية وحقوقية، لكن التوقعات بشأن ما سيتمخض عنها كانت متواضعة جدا. فالتاريخ المعاصر يؤكد أن الدبلوماسية الأمريكية لم ترتفع بمستواها كثيرا؛ فقد اعتمدت في جانب كبير منها على الإكراه والتهديد والابتزاز، ولم تعتمد قيم الحياد أو العدالة أو المنطق. طرف واحد كان متفائلا بأنها ستفيده، وهو الجانب الإسرائيلي.
فقد اعتاد كيان الاحتلال الاعتماد على الدعم الأمريكي المطلق في المجالات كافة ذات الصلة بوجوده. ومنذ الإعلان عن عزم جو بايدن على زيارة تل أبيب والرياض، كان واضحا أن جوهرها سيكون دفع مشروع التطبيع بين الحكومات العربية والكيان الإسرائيلي، بعد ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن من الرفض العربي والإسلامي والإنساني لاحتلال فلسطين، وما نجم عنه من إقامة الكيان الإسرائيلي.
وكان من بين دوافع بايدن للزيارة، تعثر مشروع التطبيع لأسباب عديدة برغم هرولة بعض الحكومات العربية للالتحاق به برغم معارضة شعوبها. هذه الشعوب اعتبرت أي خروج على الإجماع العربي بعدم الاعتراف بالكيان أو التخلي عن قضية فلسطين أو التطبيع مع المحتلين، خيانة للقضية المركزية التي كانت من اهم عوامل وحدة الأمة في موقفها السياسي. هذه الأمة لم تستسلم برغم الهزائم العسكرية التي لحقت بالجيوش العربية في الحروب منذ العام 1948. والهزيمة العسكرية ليست نهاية المطاف، بل الاستسلام هو ما يحدد مصير أي شعب أو أمة.
ولم يستطع بايدن خلال الزيارة تحقيق اختراق في موضوع النفط، حيث كان يسعى لزيادة حجم الإنتاج من هذه السلعة التي شهدت قفزات عالية في الشهور الأخيرة. كما لم يمتلك الشجاعة اللازمة لاتخاذ قرار وقف الحرب في اليمن بشكل نهائي، برغم إدراكه استحالة حسمها عسكريا. وانتقد اليمنيون حديثه عن تمديد الهدنة الحالية التي يتم اختراقها يوميا بقصف المناطق اليمنية، خصوصا مدينة صعدة.
الرئيس الأمريكي كان واضحا قبل أن يحط رحاله في تل أبيب لاستمزاج آراء قادة الاحتلال، ثم في الرياض لإنهاء المهمة. فقد أصر على تحقيق مكسب لفترة رئاسته التي يستبعد أن تتجدد لفترة ثانية نظرا لتقدمه في العمر وتداعي أوضاعه الصحية. كان يريد أن ينافس جيمي كارتر الذي استطاع إحداث شرخ في جدار الرفض العربي للاحتلال، بإجبار الرئيس المصري أنور السادات على توقيع اتفاقات كامب ديفيد في العام 1978. وبرغم الجهود الأمريكية، انحصرت خطوة السادات التي دفع حياته ثمنا لها بالعلاقات الدبلوماسية، بينما رفض الشعب المصري التطبيع مع الاحتلال.
وفي غياب مصر عن قيادة العالم العربي تنازع على زعامة العالم العربي حكام آخرون، اعتقدوا أن التطبيع مع العدو سيوفر لهم حظوة لدى واشنطن، وتناسى هؤلاء أن القضية الفلسطينية ليست ملكا لأحد، وأنها تستعصي على التحول إلى سلعة تباع وتشترى؛ فحتى لو وافق بعض الأطراف الفلسطينية على التنازل عن مبدأ التحرير، فستبقى القضية مستمرة ما دام الاحتلال قائما.
ومن المؤكد أن بروز ما يسمى محور المقاومة كان من بين الأسباب التي دفعت بايدن للإسراع بتحقيق اختراق جديد لصالح الاحتلال، يضاف لخطوة التطبيع التي قامت بها حكومتا أبوظبي والمنامة. واستخدم بايدن أسلوبين لتحقيق أهداف زيارته، تمثل الأول بالموافقة على إعادة الدعم المالي للسلطة الفلسطينية الذي كان سلفه، دونالد ترامب، قد أوقفه قبل بضع سنوات، والثاني التلميح باستعداد أمريكا للقبول بحل الدولتين (مستقبلا وليس فورا). مع ذلك أصبح واضحا أن الزيارة لم تحقق ما كانت الإدارة الأمريكية تتطلع إليه بتحقيق توافق عربي على التطبيع. ويمكن القول إن السياسة الأمريكية مسؤولة بشكل محدود عن تلكؤ ذلك المشروع. فلو أنها بدأت بالحث على الاعتراف بوجود الكيان من قبل بعض الحكومات بدون إجبارها على التطبيع، فلربما حققت نجاحا أوسع.
أخفق بايدن في تحقيق شيء ملموس خلال زيارته، ولكن ربما أدرك استحالة حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي عبر البوابة الأمريكية
ولكن هرولة حكومتي الإمارات والبحرين للتطبيع أضعف المشروع؛ لأنه أحدث صدمة أيديولوجية ونفسية لدى الشعوب العربية، وأحدثت ردود فعل مضادة لتلك الخطوات، خصوصا في البحرين التي رفض شعبها التطبيع جملة وتفصيلا. وهكذا، عاد بايدن إلى واشنطن خالي الوفاض برغم الدعاية الإعلامية التي وجهها اللوبي الصهيوني لطرح ادعاءات لا يصدقها الواقع، ملمحا إلى انتهاء المقاطعة والإيحاء بأن كيان الاحتلال أصبح جزءا من الواقع الإقليمي. وساهم في إضعاف مهمة بايدن ظهوره في وسائل الإعلام، على خطى من سبقه من الرؤساء، مؤكدا المبدأ الأمريكي الملتزم بضمان تفوق عسكري استراتيجي للكيان الإسرائيلي في مقابل الدول العربية مجتمعة.
وهناك جانبان آخران لزيارة بايدن: أولهما ما سمي مشروع الناتو العربي، وثانيهما موقف أمريكا من التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان. المشروع الأول فكرة إسرائيلية ـ أمريكية تقوم على ضرورة تحقيق التطبيع وإنهاء المسألة الفلسطينية من خلال ذلك. وفي السنوات الأخيرة روّجت أطراف عديدة مقولة أن إيران، وليس «إسرائيل» هي العدو الأول للعرب. وهذه مقولة مفتعلة ليست مرشحة للاستمرار، إلا في ظل استمرار الاستبداد في المنطقة العربية ومعه القمع والاضطهاد.
هنا، يصبح بالإمكان ضرب العقل العربي وثوابته، ومنها القضية الفلسطينية التي ارتبطت الظاهرة الثورية بها منذ بدايتها. مشروع الناتو العربي يسعى لتحقيق توافق بين الدول العربية وشراكة إسرائيلية لمواجهة إيران. غير أن هذا المشروع تواجهه عقبات كثيرة تجعل تحققه أمرا غير وارد إلا في إطار ضيق، وبشرط استمرار تهميش الشعوب وتغييب إرادتها.
فعلى صعيد مجلس التعاون، يستحيل إقامة منظومة دفاعية على قاعدة التصدي لإيران، لاعتبارات ثلاثة: أولها الخشية من هيمنة السعودية التي ستكون مدعومة بهذا «الناتو»، وثانيها غياب التوافق الخليجي إزاء إيران. فليس جديدا القول بأن سلطنة عمان ودولة قطر ودولة الكويت تتمتع بعلاقات طيبة مع الجمهورية الإسلامية، وتسعى للتعايش معها على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والتعاون لحفظ أمن الخليج. كما أن كلا من سوريا والعراق ولبنان واليمن لن تنضم لهذا المشروع. وعليه سيبقى تحالف «قوى الثورة المضادة» الذي قام على أنقاض الربيع، هو المتصدي لمشروع التطبيع والتصدي لإيران.
وهناك عمل متواصل لاستمالة السودان، ولكن أصبح واضحا أن حاكمها العسكري لن يبقى طويلا وأن الشعب الثائر يرفض استمرار الحكم العسكري ويرفض التطبيع. يضاف إلى ذلك وجود تواصل بين إيران وكل من السعودية والإمارات ضمن السياسة الإيرانية الحالية بمد الجسور مع الجيران. وسعى بايدن خلال زيارته لدعم المشروع، ولكن بدون جدوى لعدم توفر شروط نجاحه.
ليس من قبيل العقل أو التفكير الواقعي الاعتقاد بأمور ثلاثة: أن أمريكا ستتحول إلى مدافعة عن حقوق الإنسان، أو أن حلفاءها ينتهكون هذه الحقوق بدون علمها، أو أنها ستعطي أولوية لمعاناة القابعين وراء القضبان في الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية. لقد كانت زيارة الرئيس بايدن للمنطقة فرصة لاسترجاع بعض الحقوق المسلوبة من قبل المحتلين والديكتاتوريين، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، خصوصا في ظل الرغبة الأمريكية بزيادة إنتاج النفط الخليجي لمواجهة النقص الناجم عن الأزمة الأوكرانية.
وليس معلوما بعد ما إذا كانت عجلة التطبيع ستتسارع بعد هذه الزيارة، أم إن وعي الشعوب سيكون درعا واقيا للشعب الفلسطيني وحقوقه. الأمر المؤكد أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن قضايا المنطقة يجب أن تحل من قبل أهلها بالاحترام المتبادل، وتحييد النزعة للهيمنة والتمدد من الأطراف كافة. لقد أخفق بايدن في تحقيق شيء ملموس خلال زيارته، ولكن ربما أدرك استحالة حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي عبر البوابة الأمريكية، التي تصر على أن تكون طرفا فيه متحالفا مع الاحتلال.