ثمة أكثر من وجه لاستقبال شهادة كاسيدي هتشنسن، المساعدة السابقة لرئيس أركان البيت الأبيض السابق مارك ميدوز وذراعه اليمنى باعتراف الكثيرين، التي أدلت بها مؤخراً أمام لجنة الكونغرس المختارة للتحقيق في وقائع اقتحام مبنى الكابيتول يوم 6 كانون الثاني (يناير) 2001؛ خاصة دور الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تشجيع الزحف على العاصمة، رغم علمه المسبق بأنّ العديد من أنصاره الزاحفين يحملون أسلحة نارية وبيضاء بينها بنادق ثقيلة العيار من طراز AR-15.
وجهة أولى قد تفضّل الدراما، وثمة الكثير من فصولها ومشاهدها وتفاصيلها التي لا سوابق لها في تاريخ البيت الأبيض، وبعضها يصعب أن يُصدّق لولا تكاتف الملابسات التي تؤكد الصدق بدل التشكيك؛ مقابل وجهة ثانية تساجل بأنّ لا عجب ولا غرابة مع هذا الرئيس تحديداً، في شخصيته الفردية وفي سلوكياته الرئاسية، ومع جمهوره وأنصاره ومحازبيه والعاملين معه، بصرف النظر عن مواقعهم ومستوياتهم الاجتماعية والعقلية والمهنية.
بصدد الدراما ثمة حكاية أولى سردتها هتشنسن في شهادتها، تقول إن ترامب غضب، أشدّ الغضب كما يصحّ الاستنتاج من ردود أفعاله، حين استمع إلى مقابلة أجرتها وكالة أسوشيتد برس مع وزير العدل وليام بار، مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2020، صرّح خلالها الأخير أنّ وزارته لا تملك أدلة واضحة على وجود تزوير في الانتخابات الرئاسية، التي خسرها ترامب لصالح جو بايدن. ردّ الفعل الأوّل كان «رئاسياً»، والحقّ يُقال، لأنّ ترامب خبط بيده على الطاولة حين عرض بار تقديم استقالته إذا لم يكن الرئيس راضياً عن أدائه، وأردف سريعاً: «قُبلت!». بعد ذلك، ولكن في صالة الطعام، بلغت غضبة ترامب أوجها فقذف بالطعام وكسر صحن الخزف الثمين (الذي يُفترض أنّ الديمقراطية الأمريكية استخدمته مراراً في إطعام سادة البيت الأبيض)؛ ولم يكتفِ بهذا، بل رشق الحائط (الأبيض، كذلك) بسائل الكاتشب. وفي برنامج ساخر شهير، اقترح مذيع أمريكي تخليد بقعة الجدار التي شهدت الرشقة الحمراء عن طريق إعادة رشقها وتجفيفها وتثبيت لوحة نحاسية تقول: هنا كان الرئيس الأمريكي الـ45 قد رشق الجدار بالكاتشب!
في سياق الدراما أيضاً، ولكن على نحو أكثر تشديداً على مخاطر شخصية عصابية ميغالومانية بكلّ ما تتضمنه هذه التوصيفات من مظاهر اعتلال، تقول الحكاية الثانية إنّ ترامب أنهى خطابه اللاهب أمام أنصاره، وبعد أن حثهم على التوجه إلى مبنى الكابيتول واعداً بالانضمام إليهم، أراد التوجه بالفعل إلى حيث يجتمع الكونغرس لفتح صناديق اقتراع الولايات وتثبيت فوز بايدن. في «الوحش»، اللقب الذي يًطلق على الليموزين الرئاسية، انتبه ترامب إلى أنّ السيارة لا تتجه إلى الكابيتول، فاستفسر من المسؤول الأمني بوبي إنغل الذي أخبره أن اعتبارات أمنية تحول دون الذهاب إلى الكابيتول. وتروي هتشنسن أنّ ترامب مدّ يده الأولى إلى مقود السيارة ليحرف اتجاهها، فأمسك إنغل بيده قائلاً: «سيدي الرئيس يتوجب ألا تمسك بالمقود»؛ فردّ ترامب صوتياً: «انا الـF….. President وأريد التوجه إلى الكابيتول»، ثمّ ردّ جسدياً بيده الثانية وأمسك بترقوة الرجل! هذا فرد يتحكم بأزرار السلاح النووي وكان تلك الساعة يترأس القوة الكونية الأعظم، التي تزعم أيضاً أنها الديمقراطية الأولى وحارسة «العالم الحرّ»…
الوجهة الأخرى في قراءة شهادة هتشنسن تقود المرء، أو هذه السطور على الأقلّ، إلى فكرة أولى مركزية أغلب الظنّ؛ مفادها أنّ هذه الموظفة الشابة التي استيقظ ضميرها ففتحت أبواب فضائح البيت الأبيض على وسعها، لم تكن قد انتخبت ترامب في سنة 2016، حين لم تكن تتجاوز الـ 20 سنة، فحسب؛ بل كانت في عداد الأكثر حماسة له وفخراً به، من موقع انتمائها إلى الحزب الجمهوري أوّلاً، ثمّ عملها مساعدة لهذا أو ذاك من أقطاب الحزب في الكونغرس. تقول اليوم إنها شعرت بالاشمئزاز إزاء الزحف على الكابيتول، ورأت فيها خطوة «غير أمريكية» تسعى إلى تقويض رمز ديمقراطية أمريكا بناء على أكذوبة (تزوير الانتخابات الرئاسية). هذه الصحوة الضميرية الشابة تقابلها، حتى إشعار آخر غير معلوم، خيانات ضمائر أكبر سنّاً من هتشنسن، وأعلى موقعاً في مسؤوليات البيت الأبيض؛ على غرار رئيس أركان البيت الأبيض السابق مارك ميدوز الذي لم يخترْ التزام الصمت عن تلك الوقائع، وسواها كثير مما شهده في ذلك اليوم وقبله، فقط؛ بل سأل ترامب أن يمنحه عفواً رئاسياً، ثمّ صرف الأسابيع اللاحقة على مغادرة البيت الأبيض في تدبيج كتاب حافل بالأكاذيب حول الوقائع تلك وغيرها.
وهذا وجه يحيل استطراداً إلى الموقع الذي ما يزال ترامب يتمتع به في صفوف أنصاره ناخبي 2016، الذين تكاثروا كما تقول المعطيات بدل أن يتناقصوا؛ ثمّ في صفوف الحزب الجمهوري، على صعيد الأعضاء في طول الولايات المتحدة وعرضها، ممّن رفضوا نتيجة الانتخابات الرئاسية وضغطوا على قيادات الحزب كي تتبنى مزاعم ترامب؛ ثمّ في قلب الشريحة الأعلى من ممثلي الحزب في مجلسَيْ النواب والشيوخ، حيث ظلّ ترامب الثقيل يخيّم على مرشحي الانتخابات التكميلية المقبلة.
هذه، من جانب آخر ليس أقلّ أهمية، حال تمتدّ إلى قطاعات أوسع في المجتمع الأمريكي الراهن، أو المعاصر إجمالاً في الواقع، تتماهى تماماً مع أفكار ترامب الانعزالية والعنصرية والشعبوية؛ ولن تجد فارقاً فاضحاً في انقلاب «الحلم الأمريكي» على يدّ الروّاد الآباء المؤسسين، إلى كاتشب يُرشق على الجدران ذاتها التي شهدت مراحل ولادة الديمقراطية الأمريكية.
ولعلّ المثال الأحدث عهداً، بصدد يوم اقتحام مبنى الكابيتول تحديداً، هو استجواب الجنرال المتقاعد مايكل فلنت، أوّل مستشار للأمن القومي في رئاسة ترامب، والقائد الميداني خلف الكثير من جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الغازية الأمريكية في أفغانستان والعراق، ومدير وكالة استخبارات الدفاع؛ من جانب زميلة له في الحزب، عضو الكونغرس ليز شيني، يحدث أنها أيضاً إبنة ديك شيني نائب الرئيس في عهد جورج بوش الأب وأحد كبار مهندسي اجتياح العراق. هنا طرائف أسئلة امتنع فيها الجنرال عن الإجابة مستخدماً حقّه في اللجوء إلى التعديل الخامس:
ـ هل تعتقد أنّ عنف 6 كانون الثاني كان مبرَّراً معنوياً؟
ـ الخامس
ـ هل تعتقد أنّ عنف 6 كانون الثاني كان مبرراً قانونياً؟
ـ الخامس
ـ هل تؤمن بالانتقال السلمي للسلطة؟
ـ الخامس
وأن يمتنع جنرال متقاعد، أقسم يمين الولاء للدستور، عن تأييد الانتقال السلمي للسلطة أمر لا يشير إلى خيانة القسم فقط، بل إلى اعتناق العنف والنهج الانقلابي في حيازة السلطة؛ وهذا بدوره لا يصنع أية مفارقة سياسية أو قانونية أو أخلاقية أو دستورية بصدد التيار الترامبي الجارف الذي تحكّم ويتحكم بملايين الأمريكيين، فيشمل الجنرال مثل ضابط الاستخبارات ورئيس أركان البيت الأبيض مثل محامي الرئيس الشخصي، والصحافي في قناة «فوكس نيوز» مثل رئيس بلدية هنا أو عضو كونغرس هناك.
ولأنّ الأمور بخواتيمها، سوف يُتاح للمراقب المتشكك في طرائق اشتغال الديمقراطية الأمريكية أن يضع شهادة هتشنسن على المحكّ العملي الأوّل: هل ستجد وزارة العدل الامريكية في فظائع ما أوردته موظفة البيت الأبيض السابقة أساساً قانونياً لإحالة الرئيس الأسبق إلى القضاء بتهمة التحريض على العصيان الدستوري أو حتى تنظيمه؟ والادهى من هذا، هل ستؤكد انتخابات الكونغرس التكميلية أنّ ترامب ليس حيّاً مهيمناً فاعلاً مؤثراً، فحسب، بل… يتمدد، أيضاً وأيضاً؟