التوصيف الدقيق لما يجري في فلسطين هو، أن ثمة مجموعة بشرية متعددة الأصول والأعراق والهويات والمنابت تريد سحق شعب واقتلاعه من أرضه الأصلية بالقوة، ومن ثم تذويب هويته وتراثه وتاريخه، وكل الإشارات التي تدل عليه وعلى أصوله ووجوده، أي أن المجموعة البشرية القادمة من الخارج تريد مسح الشعب الأصيل الموجود على أرضه.. هذه هي قضية فلسطين باختصار.
الاحتلال الموجود في فلسطين بشكله الحالي وتفاصيله التي نراها يومياً، وما ينطوي عليه من تمييز عنصري سلبي بين السكان، هذا الاحتلال هو الوحيد من نوعه في العالم حالياً، إذ لا يوجد له أي مثيل، كما لا يوجد أصلاً أية دولة أو بقعة جغرافية في العالم مقسمة بجدار يفصل بين سكانها على أساس عنصري، كما هو الحال في الأراضي الفلسطينية.
ما يحدث في فلسطين، هو أننا أمام صراع استثنائي ووحيد في العالم، حيث يريد المحتل أن يطمس تماماً معالم الأرض وثقافة السكان وتراثهم وهويتهم، ويريد أن يخلقَ واقعاً جديداً على هذه الأرض، وشعباً جديداً فوق هذه الرقعة الجغرافية، ولذلك فإن الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال أعمق بكثير من أي صراع آخر في العالم، وأعمق بكثير مما يظن البعض، كما أنه يختلف تماماً عما يصوره المطبعون العرب الذين يسوقون عن علم أو عن جهل معلومات خاطئة عما يجري في فلسطين.
ما يحدث في فلسطين، هو أننا أمام صراع استثنائي ووحيد في العالم، حيث يريد المحتل أن يطمس تماماً معالم الأرض وثقافة السكان وتراثهم وهويتهم.
الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال يبدأ عند الأرض التي يلتهمها المستوطنون وجيشهم قطعة تلو الأخرى، لكنه لا يتوقف هناك، بل يمتد إلى صراع على الهوية والتراث والتاريخ ورواية الأحداث، وصولاً إلى صراع على “الفلافل” وما إذا كان أكلة فلسطينية أم إسرائيلية، وهذا يعني أنه صراع أعمق بكثير مما يحلو للبعض أن يتخيل.
ومن يستطيع أن يفهم هذه الحقائق يستطيع أن يفهم كيف ولماذا اغتالت إسرائيل شيرين أبو عاقلة، واغتالت قبلها غسان كنفاني، وغيرهم الكثير من الرموز الثقافية والفكرية والأعمدة التي تحافظ على الرواية الفلسطينية وتقوم بتسويقها وتثبيتها. هذا الصراع العميق مع الاحتلال هو الذي يدفع الشعب الفلسطيني للعمل ليل نهار من أجل إثبات وجوده والتمسك بهويته وأصوله وتراثه وطعامه وروايته وتاريخه، وهذا النوع من النضال الذي يمارسه الفلسطينيون يمتد إلى مختلف أنحاء العالم ولا يتوقف عند الأراضي الفلسطينية، ومن هنا نفهم أهمية إقامة المهرجانات والمعارض والفعاليات الاحتفالية التي تنظمها الجاليات الفلسطينية في بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة، إذ أنها من المنصات المهمة جداً في التعريف بالقضية ونشر الرواية الفلسطينية والتراث والتاريخ والسردية التي يحاول الاحتلال طمسها وإخفاءها.
يكفي التذكير بأن بعض أذرع الاحتلال الإسرائيلي في العالم الغربي كانت في العام ألفين مع بدء انتفاضة الأقصى، تروج أن الطفل محمد الدرة ليس سوى طفل إسرائيلي، وأن مسلحين فلسطينيين هم الذين يقومون بإمطاره بالرصاص، وهي الرواية التي سرعان ما ادحضت وانكشف زيفها، لكنها تظل مثالاً على عملية قلب الحقائق وتسويق روايات فاسدة لما يجري على الأرض.
والخلاصة المهمة في هذا السياق أنه كلما أقيم مهرجان أو احتفال أو بازار أو ندوة أو مؤتمر من أجل التعريف بفلسطين، وما يجري فيها، كلما كان ذلك يصب في مصلحة تسويق الرواية الفلسطينية، ودحض الرواية الإسرائيلية. ومن يعيش في أوروبا يُدرك كيف أن الكثير من التراث الفلسطيني تتم سرقته ونسبه للإسرائيليين، وهذا حدث بالفعل خلال فعاليات مسابقة ملكة الجمال، التي أقيمت مؤخراً في إسرائيل عندما تم عرض الثوب الفلسطيني على أنه من رموز التراث الإسرائيلي، والحقيقة أن هذه الأثواب والمطرزات تعود إلى مئات السنين التي سبقت وجود الاحتلال.
(القدس العربي)