توضيح لا بدّ منه بادئ ذي بدء. في
التصنيف التقليدي للفلسفة السياسية، تُصنَّف في اليسار الأطراف التي تشكّل
المساواة الاجتماعية القيمة الفلسفية الرئيسية لديها، في حين أن الليبرالية تضع في
الصدارة الحرية السياسية والمساواة في الحقوق. والحقيقة أن اليسار تطوّر تاريخياً
من رحم الليبرالية، من جناحها اليساري الذي مثّله خير تمثيل الفيلسوف الفرنسي
جان-جاك روسو. فاليسار بالمعنى الأصلي هو مَن يُضيف إلى القيمتين الليبراليتين
المذكورتين قيمةَ المساواة الاجتماعية، على غرار ما نجده لدى كارل ماركس وفريدريش
إنغلز أو في تجربة كومونة باريس (1871). بيد أن المسار التاريخي ولّد أيضاً قسماً
من اليسار شطّ عن القيمتين الليبراليتين ليسحق الحريات، بدءاً من حكومة روبسبيار
خلال الثورة الفرنسية (94-1793) وصولاً إلى الحكم الستاليني في الاتحاد السوفييتي
الذي وصل به سحقه للحريات وللحقوق السياسية إلى إعادة إنتاج نظامٍ من اللامساواة
الاجتماعية تتربّع على السلطة فيه فئة بيروقراطية ميسورة.
ومع ذلك، بقيت الستالينية تنادي
بالمساواة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية ولو من باب الحرب الأيديولوجية، فرأينا
أتباعها من أحزاب شيوعية تدخل في حالة شبيهة بانفصام الشخصية، تدافع عن القيمتين
الليبراليتين في الدول المنتمية إلى المعسكر الغربي وتؤيد الدكتاتورية
البيروقراطية الشمولية في الاتحاد السوفييتي والدول الدائرة في فلكه. وفي أولى
السنوات اللاحقة لانهيار الاتحاد السوفييتي، كانت قوى اليسار بشتى أطرافها تميّز
بين مناهضتها للإمبريالية الأمريكية وتمسكّها بالقيم التقليدية. فعندما قامت
الولايات المتحدة، ومعها حلفٌ عريض شمل سوريا حافظ الأسد، بشنّ هجومها الأول على
العراق في عام 1991، ميّزت قوى اليسار بمعظمها بين شجبها للعدوان وموقفها من نظام
صدّام حسين الغارق في الاستبداد والرشوة والفساد.
وفي المقابل، رأينا شططاً لدى بعض
الأطراف غير الشيوعية المدّعية لليسار، بل المدّعية للماركسية-اللينينية (وماركس
ولينين منها براء)، وهي بوجه عام أطراف نتجت عمّا سمّي "تمركس" (أي
تبنّي الماركسية) بعض الجماعات القومية في المنطقة العربية في نهاية الستينيات من
القرن المنصرم. هذه الأطراف، تمشياً مع الارتهان المادي الذي نسجته مع الأنظمة
العربية المنبثقة من التيّار القومي، أي عراق صدّام حسين وسوريا آل الأسد وليبيا
القذّافي، ابتعدت عن كافة قيم اليسار التاريخية في تعاملها مع هذه الأنظمة المضادة
للحرية والحقوق والمساواة الاجتماعية والاقتصادية، وأبقت على مبدأ واحد هو معاداة
الولايات المتحدة.
وهي معاداة تنسجم مع موقف الأنظمة
المذكورة، فبالرغم من ادّعاء هذه الأطراف أنها تتبنّى "مناهضة الإمبريالية"،
هي في الحقيقة مناهِضة للإمبريالية الأمريكية حصراً، تتعامى عن كون روسيا فلاديمير
بوتين دولة قائمة على رأسمالية فاحشة، أسوأ بشتّى المقاييس من الرأسماليات
الغربية، ودولة إمبريالية بامتياز تَرسّخ حكمُها من خلال سحق شعب الشيشان داخل
حدود "الاتحاد الروسي"، ثم انتقل إلى السعي وراء استرجاع بعض ما سيطرت
عليه الإمبراطورية الروسية في زمن القياصرة.
وها أن أدعياء اليسار هؤلاء يُبدون
مودّة إزاء قيصر روسيا الجديد في غزوه الإمبريالي لأوكرانيا، وهي مودّة تتراوح بين
نقد غزو أوكرانيا من طرف الشفاه مع تصويب كافة الأسهم ضد أمريكا، في أحسن الحالات،
وبين التذيّل لموسكو على غرار رئيس المحمية السورية للإمبراطورية الروسية. وقد
باتوا في تبعيتهم لنظام آل الأسد أسوأ بعد من أتباع النظام الثيوقراطي الإيراني،
الذي التزم الحذر ولم يؤيد الغزو الروسي، لاسيما أنه يعلم مدى تواطؤ الحكم الروسي
مع الدولة الصهيونية ضدّه وفي الساحة السورية بالذات. أما الأحزاب الشيوعية
البارزة في المنطقة العربية، فقد شجبت الغزو الروسي لأوكرانيا على العموم، وهي
تدين الولايات المتحدة في الآن ذاته كما ينبغي أن يكون الموقف السليم.
فقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي، في
بيانه بتاريخ 25/2، موقفاً يقول: "إن شعوب العالم التي لم تتعاف بعد من جائحة
كورونا وآثارها الوخيمة، صُدمت على نحو واسع بهذا الاستسهال لخرق القانون الدولي
وسيادة الدول، وهو ما قامت به أمريكا وحليفاتها مرّات كثيرة سابقاً، ويتكرّر الآن
في هذه العمليات العسكرية الروسية، في حين يتوجب الالتزام باحترام قواعد القانون
الدولي وميثاق الأمم المتحدة والحرص على السلام والاستقرار في العالم واحترام
القواعد والأعراف الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها بإرادتها الحرة."
وأتى الموقف الأوضح من الحزب الشيوعي
السوداني. فقد أصدر بياناً بتاريخ 27/2، بدأ على النحو التالي: "إن الغزو
الروسي لجمهورية أوكرانيا يفضح الصراعات بين القوى الإمبريالية لبسط نفوذها
والاستيلاء على الموارد في القارة الأوروبية والعالم. ورغم الذرائع التي يستخدمها
الطرفان – روسيا من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو من جهة أخرى
– إلا أن الغزو الروسي وما صاحبه من اتهامات أتى نتيجة المنافسة الإمبريالية بين
الجبهتين." كما جاء في نهاية البيان: "إن الحزب الشيوعي السوداني إذ
يدين الغزو الروسي لأوكرانيا ويطالب بالانسحاب الفوري للقوات الروسية من أوكرانيا،
يدين كذلك استمرار التحالف الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة في تأجيج التوتر
والحرب وتهديد السلام والأمن العالميين."
وربّما كان السبب الرئيسي الذي يفسّر
الوضوح الأكبر في موقف الحزب السوداني أنه يناضل في موقع مميّز لإدراك حقيقة
الإمبريالية الروسية، إذ إن روسيا بوتين ليست متحالفة مع مصر السيسي وإمارة بن
زايد في دعم خليفة حفتر في ليبيا وحسب، بل هي أكثر الدول العظمى صراحةً في دعمها
للطغمة العسكرية الانقلابية في السودان، وقد ربطت علاقة وثيقة، اقتصادية وعسكرية،
مع أكثر الأطراف العسكرية السودانية رجعيةً، قصدنا بالطبع المجرم "حميدتي"
الذي زار موسكو يوم بدء غزو أوكرانيا بالذات. وقد جاء في بيان الحزب تعليقٌ على
ذلك يقول: "الحزب الشيوعي السوداني، في اتساق مع موقفه المبدئي في الحفاظ على
سيادة السودان وإبعاده عن المحاور العسكرية، وإقامة علاقات متوازنة مع كل دول
العالم، يُدين زيارة سلطة انقلاب 25 أكتوبر، ومحمّد حمدان دقلو لروسيا، وينبّه إلى
خطورة التوقيع على إقامة القاعدة العسكرية الروسية على البحر الأحمر، مما يجعل
السودان في مرمى نيران الصراع بين أمريكا وروسيا ومرتزقتها (فاغنر) لنهب موارد
السودان وأفريقيا مما يهدّد الأمن والسلم العالميين."