كانت الأسابيع الماضية حافلة بالإدانة للاحتلال "الإسرائيلي" وكاشفة لجزء بسيط من جرائمه التي لا تنتهي ضد الشعب الفلسطيني، فقد صدر فيلم وثائقي للمخرج ألون شوارتز وثق فيه شهادات لجنود من جيش الاحتلال حول المجزرة التي ارتكبت في قرية الطنطورة عام 1948، فيما كشفت هآرتس وثائق تظهر لأول مرة تفاصيل عدد من المجازر التي ارتكبت أثناء تنفيذ جريمة النكبة، وكانت "ثالثة الأثافي" تقرير منظمة العفو الدولية "أمنستي" الذي أكد أن الاحتلال يمارس الفصل العنصري "الأبارتهايد" ضد الفلسطينيين جميعا، سواء من كانوا تحت حكمه أو تحت سلطة أوسلو أو في مناطق اللجوء.
يعرف الفلسطينيون والعرب وكل أحرار العالم حقيقة كيان الاحتلال الذي قام على قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وممارسة كل أنواع الانتهاكات ضدهم. لا يحتاج هؤلاء لدلائل جديدة أو تقارير أو شهادات، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية ما كشف خلال الأسابيع الماضية، لأنه يثبت الحقائق من مصادر لا يمكن التشكيك فيها، كما يحصل عادة مع شهادات وتقارير المؤسسات الفلسطينية أو المناهضة للاحتلال.
تحفل التقارير المذكورة أعلاه بتفاصيل مذهلة عن ممارسات الاحتلال، ويمكن الاطلاع على تغطيات واسعة لها في "عربي21"، ولكنني سأركز على بعض المعلومات التي تقدم صورة واضحة عن "قصة" نظام الفصل العنصري المشين هذا، وتبين أنه أسس على الجرائم الممنهجة، وأنه لا يمكن إلا أن يكون عنصريا ومجرما وقاتلا بطبيعته المؤسسة.
اقرأ أيضا: تقرير "أمنستي" يشعل غضب الاحتلال ويبث الأمل بمحاكمته
في تقرير لصحيفة هآرتس ومعهد "أكيفوت" عن المجازر التي ارتكبت أثناء النكبة لا بد أن تستوقفك قصة "شمويل لاهيس"، لأنها تلخص طبيعة هذا النظام العنصري. كان لاهيس ضابطا مسؤولا عن إحدى العصابات أثناء حرب 1948، وقد استولت العصابة التي يقودها على قرية "الحولة" في لبنان، ولم يتبق فيها سوى بعض المدنيين. ارتكبت العصابة مجزرتين في يومين متتاليين، إحداهما نفذت من قبل لاهيس نفسه، حيث جمع 15 مدنيا في غرفة في بيت مدمر وقتلهم بدم بارد.
صرح لاهيس في دفاعه أمام المحكمة بأنه إنما كان يعمل بروح ما ذكره آمر الكتيبة الذي قال له "لا حاجة لأن تثقل كاهل المخابرات بالأسرى". حكم عليه بالسجن سبع سنوات، وبعد الاستئناف تم تخفيض العقوبة إلى سنة واحدة، قضاها في أوضاع مريحة جداً داخل قاعدة عسكرية في الشمال. برر القضاة هذه العقوبة المخففة بأن "لاهيس" هو الوحيد الذي عرض على المحكمة على الرغم من أن جرائم أفظع قد ارتكبت!
بعد إطلاق سراحه، صدر بحق لاهيس عفو من قبل الرئيس إسحاق بن زيفي. وبعد ثلاثة عقود تم تعيينه مديراً عاماً للوكالة اليهودية.
في القصة أعلاه تتكثف عناصر نظام الفصل العنصري: مجزرة من قبل ضابط وقائد كتيبة ضد مدنيين، وعقوبة مخففة جدا بحق مرتكب المجزرة، ثم إصدار عفو عنه، ثم تكريمه بعد ثلاثة عقود بمنصب رئيس الوكالة اليهودية في العالم!
يكشف التقرير أيضا أن رئيس وزراء الاحتلال الأول بن غوريون كان يعلم بمجازر التطهير العرقي التي ارتكبت أثناء الحرب، وبينما كان يتظاهر بضرورة محاسبة مرتكبي الجرائم، كان يعطل التحقيقات الجدية من خلال إضعاف دور لجان التحقيق. لقد كان السياسي الأول في نظام الفصل العنصري الإسرائيلي على علم بسياسة التطهير العرقي كما بينت دراسات من يعرفون بـ"المؤرخين اليهود الجدد"، الذين قال أحدهم (بيني موريس) بعدما تخلى عن أفكاره "اليسارية" إن بن غوريون أخطأ لأنه لم يكمل مهمته بطرد كافة الفلسطينيين عام 1948.
اقرأ أيضا: مدع عام إسرائيلي سابق يقر: إسرائيل دولة فصل عنصري
أما في قصة فيلم مجزرة الطنطورة، فإن أكثر ما يثير هو ما تعرض له الباحث "تيدي كاتس" الذي كشف تفاصيل المجزرة في دراسة ماجستير قدمت لجامعة حيفا عام 1998. قدم كاتس للمحكمة بعد أن اتهمه اللواء المسؤول عن ارتكاب المجزرة بالتشهير، ما اضطره للتراجع عن كل ما ذكره بالدراسة والاعتذار، قبل أن تسحب الجامعة إجازته لرسالة الماجستير التي كانت قد حصلت على الموافقة من لجنة أكاديمية سابقا.
تكشف قصة كاتس آليات الدفاع داخل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، حيث يتكاتف الجيش مع القضاء مع الجامعات للتغطية على جرائم هذه النظام.
يستحق تقرير منظمة العفو الدولية عن ممارسات الفصل العنصري الإسرائيلية، من جهته، الاطلاع والاهتمام، فهو يقدم أدلة وحقائق من الممارسات اليومية ومن القوانين على حد سواء في كل أراضي فلسطين التاريخية.
وإذا جمعنا تقرير "أمنستي" مع تقارير مجازر النكبة في "هآرتس" وتحقيق مجزرة الطنطورة فإن هذه التقارير تعطي صورة واضحة عن نظام الفصل العنصري يمكن للمناضلين لصالح القضية الفلسطينية أن يستخدموا تفاصيلها لنشر الرواية الحقيقية عن الصراع في العالم. أما من لا يريد القراءة أو لا يجد الوقت لذلك، فبإمكانه متابعة ما يجري في حي الشيخ جراح، الآن وهنا، فهو تقرير واقعي عن نظام الفصل العنصري، الذي لن يكتب له الاستمرار ما دام فلسطيني واحد على قيد الحياة!