العدد الأخير من صحيفة «النبأ» الصادرة عن تنظيم «الدولة» لم تحمل أي شيء عن خبر قتل عبد الله قرداش، ويبدو أن التنظيم يفكر باستغلال حقيقة أنه لم يعلن في السابق أن عبد الله قرداش هو الخليفة القرشي نفسه، ولعله يفكر بالاعتراف بمقتله من دون الاعتراف به كخليفة، أو أن التنظيم يريد الإعلان عن خليفة جديد ما زال من الصعب الاتفاق عليه، مع ظرف التنظيم المقطع الأوصال.
وبدلا من الحديث عن مقتل قرداش.. ومن هو خليفته، أفردت «النبأ» صفحة كاملة بعنوان «وسحروا أعين الناس» لمهاجمة التعاطف العارم مع الطفل المغربي ريان، الذي حبس أنفاس العالم لأيام، خلال محاولة إنقاذه من البئر، وقارن جهاديو التنظيم في مقال مطول مليء بالحشو، بين الإعلام المهتم بهذه القضية و»سحرة فرعون» منتقدين تجاهل الإعلام العالمي للأطفال الذين قتلوا في «مجزرة أمريكا» داخل منازلهم، في إشارة ـ على ما يبدو ـ إلى مقتل أطفال عبد الله قرداش خلال عملية اغتياله في إدلب، مضيفين أن «الاهتمام العالمي» بقضية الطفل ريان كان متعمدا لصرف الأنظار عن معاناة أطفال العراق وسوريا، وأن بايدن «حشد طواغيت العرب والعجم، وكل سحرتهم ليصرفوا الناس عن «مجزرة أمريكا» التي حرص الطاغوت بايدن على إخفائها» وفق تعبير صحيفة «النبأ» وتضيف: «فهل أبصرت عيون ملايين الناس طفل البئر فرقّت قلوبهم لذلك، بينما عميت أبصارهم وقست قلوبهم – فهي كالحجارة أو أشد قسوة – عن آلاف الأطفال الذين يقتلهم البرد والجوع والإعياء كل يوم في مخيمات الأهوال في العراق والشام وغيرها؟ أم أن الملايين سقطوا في بئر الهوان والطفل وحده الذي خرج؟».
يعتبر المسؤولون الإعلاميون لتنظيم الدولة الشعور العربي والإسلامي الذي توحد مع ريان، كان من صناعة «خبراء البيت الأبيض»
ولا يكتفي المسؤولون الإعلاميون للتنظيم بالحديث عن «مؤامرة بايدن» الإعلامية حول الطفل ريان، بل يعتبرون الشعور العربي والإسلامي الذي توحد بالفعل مع ريان، كان من صناعة «خبراء البيت الابيض».
مواصلين هذه الأسطوانة السمجة بالقول «كم كان تكلفاً سخيفاً أن يطلق السفهاء على ما جرى أوصافا من قبيل «وحدة الأمة» ولا ندري أي وحدة وأي أمة تلك التي يختار لها اهتماماتها «خبراء الإعلام في البيت الأبيض».
وإضافة لهذه اللغة الركيكة والمنطق المؤامراتي الأعوج، فإن الملاحظ أن هذا «النفس» وهذا الطرح المستاء من الاهتمام بقضية الطفل ريان، بحجة أنه «اهتمام مفتعل يتجاهل ضحايا الأطفال في العراق وسوريا» ليس حكرا على الموالين للتنظيم، بل تعداه إلى عدد من الكتاب والناشطين، ظهرت آراؤهم في وسائل التواصل الاجتماعي، من دون أن يستوعبوا أن طبيعة التفات الناس وتفاعلها مع الأخبار، تعتمد في أحد معاييرها على الجديد والفارق، وليس المكرر والمألوف، وإن كانت قصة الطفل ريان أقل قسوة من قصص آلاف الأطفال في العراق وسوريا وفلسطين، الذين يموتون إما بالقصف الجوي والعمليات العسكرية وإما بالبرد في مخيمات الشتات.
النقطة الأخرى تتعلق بازدواج المعايير عند الأصوليين، ومن يتبنى طروحاتهم
وهم ليسوا بالضرورة سلفيين فقط، وإن كان أكثرهم كذلك، فهم ينتقدون «الاهتمام العالمي» بقلة الاكتراث بقضايا الأطفال المسلمين، وفي الوقت نفسه هم يملؤون الدنيا صراخا بدعوات التشفي والانتقام، مع كل زلزال أو عاصفة تضرب «بلاد الكفار» ولا يظهرون أي تعاطف مع أطفالهم، ثم إن أنصار التنظيم المستائين من تجاهل التعاطف مع أطفال قرداش في الغارة الأمريكية (وهم بلا شك ضحايا أبرياء، لا بد من التعاطف معهم) هم أنفسهم من ينتقمون من المدنيين الغربيين بالعمليات التفجيرية ويأخذونهم بجريرة سياسات دولهم، ويبررون ذلك، فلماذا سيتعاطف الإعلام الغربي مع أطفال قائد تنظيم لا يبالي بقتل أطفالهم، وهو من أمر بسبي أطفال ونساء الإيزيدية؟ هذا كله لا يعني وجود انحياز غربي إعلامي في الاهتمام بالقضايا، حسب معايير قد لا تكون عادلة دوما، وتدخل في هذا الباب كيفية مقاربتهم لضحايا إسرائيل من الفلسطينيين مثلا، وقضية معاداة السامية، ومن الملاحظ أن المجتمعات تتعاطف أكثر مع من يشبهها، ويشاركها القيم، بل والشكل أحيانا، فهذه والدة الناشطة الفلسطينية عهد التميمي، تقول صراحة إنها تعتقد أن الإعلام الغربي تعاطف مع ابنتها عهد لأنها شقراء مثلهم وتشبههم، قد يحدث هذا من دون تعميم.
وأيضا في العراق وسوريا، كانت معايير بعض وسائل الإعلام الغربية مزدوجة حين تبالغ في الاهتمام بانتهاكات تنظيم الدولة، وتتفاعل بشكل أقل مع انتهاكات الحشد الشعبي ونظام الأسد، فمثلا وصفت إحدى الصحف الإيطالية (اعتقد انها يسارية) القيادي في الحشد الشعبي أبو عزرائيل بالبطل ووضعت صورته على الغلاف، بينما كان يظهر في الفترة نفسها أمام جثة معلقة في منطقة سنية.
(القدس العربي اللندنية)