كثيرا ما تدفع النتائج الكارثية للصراعات العسكرية؛ لتعاظم الأمل بمستقبل مختلف يسوده السلام تستبدل فيه لغة السلاح بأساليب الحوار والتفاهم. وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، التي شهدت من المآسي ما دفع المشاركين فيها للإصرار على استبعاد أسباب المواجهة العسكرية مستقبلا.
وشهدت حقبة النصف الثاني من الأربعينيات جهودا حثيثة لبلورة أسس عالم أكثر أمنا والتزاما بمواثيق جديدة، عكف المختصون على صياغتها منذ ذلك الوقت، ومنها مواثيق جنيف حول الحرب وحقوق الإنسان لدعم مشروع الأمم المتحدة، الذي يفترض أن يكون الراعي للعالم الجديد. كان زعماء الغرب آنذاك يدغدغون عواطف شعوبهم بوعود وآمال عريضة لم يتحقق إلا النزر القليل منها لاحقا؛ فسرعان ما دخل الشرق والغرب في مضمار سباق التسلح النووي، وبدأت صراعات جديدة كان العرب أول ضحاياها. واستخدمت المحرقة التي استهدفت اليهود الأوروبيين خلال الحرب لمعاقبة طرف ليس له علاقة بها. فبدلا من تكفير أوروبا عن خطيئتها التاريخية بحق اليهود، تمت معاقبة العرب الذين لم يكن لهم أي دور في ما جرى.
فليسوا المسؤولين عن اضطهاد اليهود، وكان من الظلم الفاضح تغيير اتجاه الصراع المستقبلي لإبعاده عن أوروبا، فتمت التضحية بفلسطين بقرار أوروبي قبيح ما تزال تبعاته مستمرة حتى اليوم، وما يزال أهل فلسطين يدفعون ثمن الخطيئة الغربية. كان هدف الأوروبيين تفادي الصراعات على أراضيهم؛ لمنع تكرر ما جرى في النصف الأول من القرن العشرين.
ولكن هل تحقق ذلك؟ لماذا يزداد الإنفاق العسكري العالمي باستمرار ليقضم نسبا كبيرة من موازنات الدول؟ ما آثار ذلك على البنى الاجتماعية والأنماط الأخلاقية؟ وهل حقا أصبح العالم اليوم أكثر أمنا عن ما كان عليه قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية؟ أم إن سباق التسلح سيتواصل حتى يوصل العالم معه إلى حالة غير مسبوقة من الانهيارات النفسية والأخلاقية؟ ما مستقبل أجيال هذا الكوكب التي تولد من الأرحام على أنغام التوتر والتهديد والتحشيد العسكري؟
بالإضافة لاندلاع السباق النووي الذي كاد يؤدي إلى حرب نووية في غضون خمسة عشر عاما (أزمة الصواريخ في كوبا بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة 1961)، اندلعت الحرب الكورية (1950-1953) وبعدها حرب فيتنام (1955-1975).
ماذا يعني ذلك؟ الأمر الواضح أن التوجه الغربي لتفادي أسباب الصراعات الدولية كان منحصرا بالغرب وبالتحديد أوروبا وليس العالم كله. وبشكل تدريجي تم تهميش الأمم المتحدة وتقلص دورها في منع اندلاع النزاعات المسلحة وترويج لغة الحوار والتصالح بدلا من استخدام السلاح. وحتى الآن، ما يزال لغز مقتل أمينها العام، دان همرشولد في العام 1961 بعد سقوط طائرته في غابات الكونغو محيرا، ولا يستبعد أن يكون بداية استهداف المنظمة الدولية وتصاعد أجواء الحرب الباردة بموازاة النزاعات المسلحة في أنحاء العالم. فعندما توقفت صفارات الإنذار في صيف 1945 بهزيمة ألمانيا، لم يظن أحد أن هذا العالم سيكون محكوما ليس بالتوافق الدولي من خلال الأمم المتحدة، بل باتجاهات ثلاثة: الأول الحرب الباردة التي اندلعت بين الشرق والغرب، وتحوّلت إلى صراع أيديولوجي استمر أكثر من أربعة عقود. الثاني: مبدأ التوازن الذي يعني في حقيقته الوفاق من خلال توازن الرعب والسباق النووي.
الثالث: توسع النفوذ الأمريكي ليصبح العالم محكوما بشرطي دولي، نصّب نفسه بديلا لمبدأ التوافق الذي يفترض أن تجسده الأمم المتحدة عمليا. فماذا يعني ذلك؟ وأين هو التقدم السياسي أو المبدئي أو الأخلاقي في عالم ما بعد الحرب؟ أين هي المبادئ التي عكف على تقنينها نخب عملاقة من السياسيين والقانونيين والحقوقيين، على أمل أن تستبدل القوة بالتفاهم في العلاقات بين الدول؟ الأمر المؤكد أن الحرب وكوارثها ساهمت تدريجيا بإنهاء حقبة الاستعمار التقليدي، من خلال نضالات الشعوب التي استفادت من أجواء الحرب الباردة. ولكن تراجع ظاهرة الاستعمار (البريطاني والفرنسي بشكل خاص) لم يقتلع النزعة نحو الهيمنة، خصوصا من قبل الغرب الذي أصبح تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد شهدت حقبة نصف القرن الأخير صعود الدور الأمريكي بشكل ملحوظ، هذا الدور لم يكن موجها لدعم مشاريع الحوار والتفاهم من خلال الأمم المتحدة، بل عبر الانتشار العسكري الواسع للذراع العسكرية الأمريكية لتصل إلى كل بقاع العالم، ومن المؤكد أن تفكك الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثين عاما وانتهاء الحرب الباردة ساهم في التمدد الأمريكي الذي تغوّل في غياب منافسين حقيقيين له على المسرح الدولي. ويمكن اعتبار حوادث 11 ستبمبر الإرهابية نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية هي الكبرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان من نتائج ذلك ما يلي: أولا: زيادة تهميش دور الأمم المتحدة، حتى أصبح وجودها شكليا، فلم تستطع حل خلافات الدول أو تمنع الحروب، أو تطوير لغة التفاهم والتواصل بين الشعوب.
ثانيا: تغوّل حالة الاستبداد خصوصا في المنطقة العربية بسبب تغير أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وبحثها عما تسميه «الأمن» وإن كان ذلك على حساب قيم الحرية وحكم القانون. ثالثا: تعاظم رغبة الولايات المتحدة في أداء دور «شرطي العالم»، بدلا عما تمثله الأمم المتحدة من قيم العمل المشترك والحوار والتعاون والمساواة. رابعا: تعمق النزعة الأمريكية نحو العمل الأحادي بدلا من العمل الجماعي، وما لذلك من انعكاس على التوازن السياسي والعسكري في العالم. وكانت حقبة رئاسة ترامب محنة كبرى ليس للعالم فحسب، بل للولايات المتحدة نفسها وحلفائها. وحتى الآن لا يبدو الرئيس بايدن قادرا على انتشال بلاده مما وصلت إليه من تراجع على مستوى العمل الدولي المشترك والعلاقة مع الشعوب، والموقف إزاء قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن ظاهرة «الشرطي الدولي» التي تمثلها الولايات المتحدة مقلقة جدا لأسباب عديدة: أولها أن من المفترض أن يكون عمل الشرطي مرتبطا بالحفاظ على القانون الذي يضمن الأمن العام ويمنع الفوضى. لكن الشرطي العادي مسؤول أمام جهات عليا تمارس عليه دور الرقابة والمحاسبة وضمان الالتزام بالقانون. أما دور الشرطي الذي تمارسه أمريكا، فهو فوق القانون والمساءلة ولا يخضع لجهات عليا تمارس تلك الرقابة والمحاسبة. ثانيها؛ أن هذا الدور أصبح يؤدي دورا مضادا، فبدلا من نشر الأمن، فقد أصبح مثارا للنزاعات والتوتر في المناطق التي يوجد فيها؛ فالأساطيل التي تمخر البحار والمحيطات أصبحت سببا للتوتر في العلاقات وربما المواجهات. ثالثا؛ أن منطقة الخليج كانت لها تجارب مرة مع هذا الدور، خصوصا في النصف الثاني من الثمانينيات، وتحديدا في العام 1988. فقد مارست أمريكا هذا الدور عندما بعثت سفنها العسكرية لمصاحبة ناقلات النفط الكويتية حتى تخرج من الخليج بسبب التهديدات الإيرانية في ذروة الحرب العراقية ـ الإيرانية. رابعا؛ أن الإنفاق الهائل على التسلح، لم يؤد إلى عالم أكثر أمنا واستقرارا؛ فحاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس جيرالد فورد» التي دخلت الخدمة العام الماضي بلغت تكلفة بنائها 13 مليار دولار، بينما بلغت تكلفة حاملتي طائرات بريطانيتين دخلتا الخدمة العام الماضي أيضا حوالي 9 مليارات دولار.
وتبلغ تكلفة الطائرة الواحدة من نوع أف 35 الأمريكية 150 مليون دولار. أهذا ما كان يحلم به منظرو حقبة ما بعد الحرب؟
إن السباق المحتدم بين المشروع الإنساني الذي توافقت عليه دول أوروبا بعد الحرب وتضمّن مشاريع تصالحية اقتصادية (كمشروع مارشال لإعمار أوروبا)، وإنسانية (كتأسيس منظمات الإغاثة ومنها يونيسكو وأونروا)، وأخلاقية (مواثيق جنيف ومعاهدات حقوق الإنسان) وآليات معقولة لحل الخلافات لم يتوقف. وربما بلغ هذه الأيام ذروته، لتصبح الحرب في أوروبا احتمالا واردا في ضوء تصاعد الأزمة الأوكرانية.