قال الكاتب جيسون ستانلي، إن الولايات
المتحدة، تشهد حركة فاشية اجتماعية سياسية، نمت خلال العقود الماضية، مثل غيرها من
الحركات الفاشية، لكنها تعد تهديدا كبيرا للديمقراطية.
ولفت الكاتب بمقال في صحيفة الغارديان مقال ترجمته
"عربي21"، إلى أن ترامب المستبد، المليء بالطموحات والتطلعات الشخصية، زود الفاشية بالدعم وزاد من تفاقمها، واستغل
موقعه في السلطة حتى يطبعها بالمجتمع.
"دعونا نتذكر أنه قبل أن يكون ثمة حل
نهائي، لابد من أن يوجد حل أول، ثم حل ثان وحتى حل ثالث. إن الانتقال نحو الحل
النهائي لا يكون عبر قفزة. بل يتم عبر خطوة، تليها أخرى، ثم تليها أخرى."
هكذا بدأت الروائية الأمريكية توني موريسون
خطابها أمام جامعة هوارد في عام 1995 تحت عنوان "العنصرية والفاشية"،
والذي حددت فيه 10 إجراءات، خطوة تلو الأخرى، للانتقال بالمجتمع من الأولى إلى
الأخيرة.
لم يكن اهتمام موريسون منصباً على الغوغائيين
الفاشيين أو على الأنظمة الفاشية، وإنما على "القوى المهتمة بالبحث عن حلول
فاشية للمشاكل الوطنية". كانت الإجراءات التي وصفتها عبارة عن وسائل لتطبيع
مثل تلك الحلول، لتركيب عدو داخلي، ثم لعزله وشيطنته وتجريمه هو ومن يتعاطفون مع
عقيدته ومن يتحالفون معهم باستخدام وسائل الإعلام، وخداع المناصرين من خلال
إيهامهم بامتلاك السلطة والنفوذ.
رأت موريسون في تاريخ العنصرية الأمريكية
ممارسات فاشية لديها القدرة على تمكين حركة فاشية اجتماعية وسياسية في الولايات
المتحدة.
لم تتردد موريسون وهي تكتب في حقبة أسطورة
"المفترسين الخارقين" (وكانت نيوزويك قد نشرت في السنة التالية مقالاً
بعنوان "أيها المفترسون الخارقون: هل يتوجب علينا حبس الذرية الجديدة من
الأطفال الشريرين داخل أقفاص؟") عن قراءة الفاشية في الممارسات العنصرية
الأمريكية. وها هي تلك "القوى المهتمة بإيجاد حلول فاشية للمشاكل
الوطنية" تقترب بعد خمسة وعشرين عاماً أكثر من أي وقت مضى من كسب المعركة
الوطنية التي دارت رحاها على مدى عقود متعاقبة.
يتصدر لزعامة الحركة الفاشية الأمريكية
المعاصرة أصحاب المصالح الأولغاركية الذين يعتبرون الخير العام عقبة، ومن أمثلة
هؤلاء أولئك الضالعون في قطاع المنتجات الهيدروكربونية، وكذلك حركة اجتماعية
وسياسية ودينية تعود جذورها إلى الكونفدرالية. وكما في جميع الحركات الفاشية، تجد
هذه القوى لنفسها زعيماً يتمتع بالشعبية ولا يتقيد بقواعد الديمقراطية، يتمثل هذه
المرة في شخص دونالد ترامب.
رأي والدي، الذي نشأ في برلين تحت حكم
النازيين، في الفاشية الأوروبية مساراً يمكن لأي بلد أن يتخذه. وعلم أن
الديمقراطية الأمريكية ليست مستثناة من حيث قدرتها على مقاومة القوى التي حطمت
عائلته ودمرت شبابه. أما والدتي، التي عملت كاتبة اختزال في المحاكم الجنائية
الأمريكية لأربعة وأربعين عاماً، فرأت في العنصرية المعادية للسود داخل النظام
القانوني الأمريكي ما يشبه معاداة السامية الشريرة التي عانت منها في شبابها في
بولندا، على شكل سلوكيات مكنت للتواطؤ مع الفاشية في مجتمعات أوروبا الشرقية.
وكانت جدتي، إلسي ستانلي، قد دونت مذكرات
نشرت في عام 1957 وثقت فيها تجاربها في برلين في ثلاثينيات القرن الماضي، واستضيفت
في وقت لاحق في أحد البرامج التلفزيونية داخل الولايات المتحدة اسمه "هذه هي
حياتك" لتتحدث عن ذلك. كانت تلك مذكرات حول سنوات تطبيع الفاشية الألمانية،
قبل نشوب الحرب العالمية بمراحل وقبل ما ارتكب فيها من إبادة عرقية. تتحدث في
مذكراتها عن تجارب مع الضباط النازيين الذين كانوا يطمئنونها بأنهم في شيطنتهم
النازية لليهود كانوا بكل تأكيد لا يقصدونها هي.
كان الفلاسفة يتصدرون باستمرار لعملية تحليل
العقيدة والحركات الفاشية. وانتهاجاً لتقليد يشتمل على أعمال فلاسفة مثل هنه
أريندت وثيودور أدورنو، لم أزل أكتب منذ عقد من الزمن عن الطريقة التي يستخدم من
خلالها السياسيون وزعماء الحركات الدعاية، بما في ذلك الدعاية الفاشية في المركز
منها، في سبيل الفوز بالانتخابات وكسب السلطة.
من يستخدمون الأساليب الفاشية كثيراً ما
يفعلون ذلك من باب المكر – فهم في الواقع لا يعتقدون بأن الأعداء الذين يستهدفونهم
على تلك الدرجة من الخبث أو النفوذ التي يتحدثون عنها في خطاباتهم. ومع ذلك، فلا
مفر من نقطة تحول يصبح عندها الخطاب نهجاً متبعاً. لطالما استغل دونالد ترامب
والحزب الذي بات الآن منقاداً له الدعاية الفاشية، وها هم الآن يسطرونها لتصبح
سياسة فاشية.
تنمو الدعاية الفاشية داخل الولايات المتحدة
في أرض خصبة – فقد نجم عن عقود من الصراع العنصري أن تصبح الولايات المتحدة صاحبة
أعلى معدلات اعتقال في العالم. لقد غدونا عرضة للاستضعاف من قبل سردية الإذلال
الوطني على يد أعداء من الداخل والخارج، وذلك بفضل ما تشكل لدينا من قوات شرطة
مسلحة الغاية منها مداواة جروح الجور العنصري بالعنف وكذلك بفضل تاريخ حديث مثقل
بأعباء الحروب الإمبريالية الفاشلة. وكما أثبت ويب دو بوا في كتابه الرائع
"إعادة بناء السود" الصادر عام 1935، ثمة تاريخ طويل من نخب قطاع
التجارة والأعمال التي ساندت العنصرية والفاشية خدمة لمصالحها، وذلك بهدف ضرب
إسفين في جسد الطبقة العاملة يؤدي إلى تقسيم الحركة العمالية ثم إلى تدميرها.
الجديد في الأمر هو أن مستبداً لا يعرف
الرحمة يسوق هذه القوى الفاشية ويشكل منها مذهباً ونصب نفسه إماماً له. وقد بتنا
الآن في خضم تبعات هذه العملية الأخيرة – حيث بدأت الأكاذيب الفاشية، ومنها على
سبيل المثال الفرية التي تدعي بأن انتخابات 2020 تمت سرقتها، تعمل على إعادة تركيب
المؤسسات، وبشكل ملحوظ قانون الانتخابات وما يخصها من بنى تحتية. وبينما تمضي هذه
العملية قدماً، ببطء وتروٍ، يستحضر تطبيع وسائل الإعلام لتلك الإجراءات الخطوة
العاشرة والأخيرة من خطوات موريسون، ألا وهي "التزام الصمت بأي ثمن."
تركيب عدو
قد يفيد من أجل فهم الفاشية الأمريكية
المعاصرة أن نتأمل في أمور موازية لتاريخ القرن العشرين، سواء في حالات النجاح
أو في حالات الإخفاق.
كان هتلر معاد للسامية لدرجة الإبادة
العرقية. وعلى الرغم من أن الفاشية تقوم على الاستخفاف بحياة البشر إلا أنه ليس كل
الفاشيين ينزعون نحو الإبادة العرقية. فحتى ألمانيا النازية لم تتحول نحو الإبادة
العرقية إلا في وقت متأخر نسبياً من حكم النظام. وليس كل الفاشيين معادين للسامية.
فقد كان هناك فاشيون إيطاليون يهود. بالإشارة إلى نجاح إذابة اليهود في جميع مراحل
الحياة الألمانية في عهد ويمر، حذرني والدي قائلاً: "لو أنهم اختاروا شخصاً
آخر، لكان بعضنا من بين أفضل النازيين." نحن معشر اليهود الأمريكيين نشعر أننا
في بلدنا. أما الآن وقد غدا الأعداء الداخليون للحركة الفاشية هم اليساريون
ومنتسبو حركة المطالبة بالمساواة العرقية مع السود، فمن الممكن، على وجه التأكيد،
وجود فاشيين أمريكيين يهود.
لم يهيمن الحزب القومي الاشتراكي في ألمانيا
على واحد من أحزاب التيار العام، بل بدأ حزباً صغيراً يمينياً متطرفاً وراديكالياً
يعادي الديمقراطية، ولقد واجه ضغوطاً مختلفة في نضاله لتحقيق نجاح انتخابي أكبر.
على الرغم من بداياته الراديكالية إلا أن
الحزب النازي ما لبث سريعاً أن زاد من شعبيته على مدى العديد من الأعوام جزئياً من
خلال انتهاج استراتيجية التكتم على أجندته المعادية للسامية صراحة حتى يتمكن من
جذب الناخبين المعتدلين الذين من الممكن أن يقنعوا أنفسهم بأن العنصرية التي
تتواجد في القلب من الأيديولوجيا النازية شيء لربما تجاوزه الحزب، الذي قدم نفسه
باعتباره الترياق للشيوعية، مستخدماً تاريخ العنف السياسي في جمهورية ويمر، بما في
ذلك اشتباكات الشوارع بين الشيوعيين واليمين المتطرف، للتحذير من خطر الثورة
الشيوعية العنيفة. كسب الحزب دعم نخب قطاع التجارة والأعمال من خلال تعهده بسحق
النقابات العمالية. كما صور النازيون كلاً من الاشتراكيين والماركسيين واللبراليين
والنقابات العمالية والعالم الثقافي ووسائل الإعلام باعتبارهم ممثلين لهذه الثورة
أو متعاطفين معها. وبمجرد وصولهم إلى السلطة، تثاقلوا عن تلك الرسالة.
في خطابه الذي ألقاه عام 1935 وكان عنوانه
"الشيوعية بلا قناع"، وصف وزير الدعاية النازية جوزيف غوبلز البلشفية
بأنها تنفذ "حملة يديرها اليهود بالتعاون مع العالم الدولي السفلي ضد الثقافة
بهذا الشكل." بالمقابل، كما قال، فإن "الاشتراكية القومية ترى في كل هذه
الأشياء – في الملكية {الخاصة}، وفي القيم الشخصية، وفي الأمة وفي العرق وفي مبادئ
المثالية – تلك القوى التي تحمل كل حضارة إنسانية والتي تحدد بشكل أساسي ما لها من
قيمة."
أدرك النازيون أن لغة العائلة والعقيدة
والأخلاق والوطن يمكن أن تستخدم لتبرير العنف الوحشي الذي يمارس ضد عدو يصور على
أنه يقف ضد جميع هذه الأمور. كانت الرسالة المركزية للسياسات النازية تقوم على
شيطنة مجموعة من الأعداء الذين تم تركيبهم، والذين يمثلون تحالفاً غير مقدس يشتمل
على الشيوعيين واليهود، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى تبرير تجريمهم
جميعاً.
على النقيض من الاعتقاد الشائع، لم تكن حكومة
النازيين في ثلاثينيات القرن الماضي نزاعة نحو الإبادة العرقية، ولم تكن معسكرات
الإبادة سيئة الصيت التابعة لها مكتظة بالسجناء اليهود، على الأقل إلى أن بدأت
عمليات الإبادة في نوفمبر / تشرين الثاني من عام 1938. في بادئ الأمر، كان الشيوعيون
والاشتراكيون هم المستهدفين من قبل مخيمات الإبادة التي أقامها النظام النازي،
الذي اكتفى بتحريض متطوعيه على ممارسة العنف ضد الأهداف الأخرى، مثل اليهود، ونأى
بنفسه عن ذلك العنف من خلال التعمية على دور عملاء الدولة فيما كان يجري. خلال ذلك
الوقت كان بإمكان كثير من الألمان غير اليهود خداع أنفسهم بشأن طبيعة العنف الوحشي
الذي يمارسه النظام، وأن يقولوا لأنفسهم إن وسائله شديدة القسوة ضرورية لحماية
الأمة الألمانية من الخطر الخبيث الذي تمثله الشيوعية.
كانت الميليشيات العنيفة تقوم بدور غامض يحتل
موقعاً وسطاً ما بين الدولة والفاعلين الخارجين عن إطارها. بدأت منظمة إس إس
كمجموعة عنيفة مكونة من أنصار النازية قبل أن تتحول إلى ذراع مستقل من أذرع
الحكومة. أوجدت رسالة القانون والنظام القائم على العنف ثقافة ألقت بظلالها على
جميع مؤسسات الدولة النازية. وعن ذلك كتب مؤرخ جامعة ييل البروفيسور تيموثي سنايدر
في مؤلفه "حول الطغيان" يقول: "حتى يتسنى للعنف أن يغير ليس فقط
المناخ وإنما أيضاً النظام، لابد من دمج عواطف التجمعات وأيديولوجيا الإقصاء في
برامج تدريب الحرس المسلح."
في الولايات المتحدة، تدريب الشرطة كما لو
كانوا "محاربين" مع الاستبدال غير الرسمي للعلم الأمريكي براية تحمل
خطاً رفيعاً أزرق اللون أمر لا يبشر بخير حول الالتزام الديمقراطي لهذه المؤسسة.
من أجل أن يصبح حزب يميني متطرف جزءاً
مقبولاً من المنظومة الديمقراطية لابد له من أن يقدم وجهاً يتمكن من خلاله من
الدفاع عن نفسه باعتباره حزباً معتدلاً، بينما ينمي علاقة غامضة مع الآراء
والتصريحات المتطرفة لأكثر أعضائه صراحة. يتوجب عليه أن يحافظ على التظاهر
بالتزامه بسيادة القانون، وليس هناك أفضل من أن يرمي خصومه بما يرتكبه هو من
انتهاكات لمبدأ سيادة القانون.
لابد أن يكون مثل هذا التظاهر أشد وأبلغ في
حالة هيمنة حركة يمينية متطرفة معادية للديمقراطية على حزب يميني من أحزاب التيار
العام. حينها ينبغي على الحركة أن تقبل بأعضاء ذلك الحزب الذين يعربون عن ولائهم
للعناصر الإجرائية من العملية الديمقراطية، مثل مبدأ صوت واحد لكل ناخب، أو مبدأ
أن من يخسر الانتخابات النزيهة فإنه يسلم السلطة – في الولايات المتحدة اليوم،
شخصيات مثل آدم كينزنغر وإليزابيث تشيني. يواجه الحزب الاجتماعي والسياسي الفاشي
ضغوطاً من أجل تعمية ارتباطه أو رعايته لأنصاره العنصريين الذين يمارسون العنف
وكذلك التعمية على أجندته المعادية للديمقراطية ضمنياً.
لا يملك حتى أكثر المتشككين إلا أن يعترف أنه
في مواجهة الهجوم على العاصمة الأمريكية يوم السادس من يناير / كانون الثاني كان
السياسيون الجمهوريون يحاولون، في أقل تقدير، رعاية الكتلة العنيفة من المشاغبين
دعماً لقضاياهم. بل لقد غدا كايل ريتنهاوس بطلاً في أعين الجمهوريين بعد أن ظهر في
كينوشا بولاية ويسكونسن، كمواطن محترس مسلح، وقتل رجلين. ربما لا يوجد ما يكفي من
أمثال كايل ريتنهاوس في الولايات المتحدة لتبرير الخوف من أن تقوم ميليشيا مسلحة
من أمثال هؤلاء المحترسين بفرض نتيجة انتخابات 2024 على النحو الذي يطلبه دونالد
ترامب. أما إنكار أن حزب ترامب يعمل بجد على خلق مثل هذه الحركة فهو، في هذه
اللحظة، مجرد خداع مقصود.
تمرد أسود ورد فعل أبيض
أثبت عنف الشوارع أنه لا يقدر بثمن بالنسبة
للاشتراكيين القوميين ولمسعاهم الوصول إلى السلطة. فلقد حرض النازيون على ارتكاب
العنف في الشوارع، بل وفاقموا منه كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ثم راحوا يشيطنون
خصومهم ويعتبرونهم أعداء للشعب الألماني، ينبغي التعامل معهم بمنتهى القسوة. وكذلك
جاء ظهور ترامب عقب الاحتجاج الأسود، وهو احتجاج كان في بعض الأحيان عنيفاً، ضد
توحش الشرطة في فيرغوسون وبالتيمور. ومؤخراً غذت جريمة قتل جورج فلويد وحركة
الاحتجاج التاريخية في الولايات المتحدة في أواخر الربيع الافتراءات التي يروج لها
الفاشيون.
كل هذه التطورات الأخيرة تأتي باعتبارها
الأحدث في التاريخ الطويل لاحتجاج السود في الولايات المتحدة ضد عقيدة وهياكل
التفوق العنصري للبيض والتاريخ الموازي لردود فعل البيض على هذه الاحتجاجات.
كانت جماعات المحترسين البيض تتشكل باستمرار
كرد فعل على تمردات السود وذلك من أجل "الدفاع عن عائلاتهم وممتلكاتهم في
مواجهة تمرد السود،" كما كتبت المؤرخة إليزابيث هينتون فيما نشر لها مؤخراً
من تدوين لتلك التمردات. تبين هينتون أن الشرطة كانت في العادة تتصرف بانسجام مع
تلك الجماعات. كان المحرض لتلك التمردات على مدى عقود في الأغلب حدث أو حوادث من
عنف الشرطة ضد أفراد في مجتمعات السود، بعد فترة طويلة من ممارسات كانت الشرطة
فيها كثيراً ما تلجأ إلى العنف، الأمر الذي كان يفاقم من تظلمات تلك المجتمعات.
لطالما صاحب حركات الشارع في الولايات
المتحدة احتجاجات قوية داخل الجامعات، بدءاً بالاحتجاجات ضد الحرب في فيتنام في
ستينيات القرن الماضي وانتهاء بالاحتجاجات الأخيرة داخل الجامعات للمطالبة
بالعدالة العرقية، وهي الاحتجاجات التي جذبت توبيخاً من وسائل الإعلام (للمفارقة
بسبب ما قالوا إنه "تبريد لحرية التعبير"). احتفى السياسيون من الحزبين
بهذه اللحظات، واستخدموها لحصد الأصوات. وطوال هذه الجولات من الاحتجاج والتمرد،
شجع السياسيون الأمريكيون، من باري غولدواتر وصاعداً، اتخاذ إجراءات أمنية أشد
قسوة لقمع اليساريين، مساوين في ذلك ما بين الاحتجاجات داخل الجامعات وتمرد السود.
قال جون إهرليتشمان، أحد كبار مستشاري نيكسون، إن حملة نيكسون وإدارته "كان
لديهما عدوان: اليسار المعارض للحرب والسود من الناس"، واخترعا حرب المخدرات
لاستهداف الجانبين:
"هل تفهم ما أقول؟ أنت تعلم أنه ليس
بإمكاننا حظر معارضة الحرب أو أن يكون المرء أسوداً، ولكن من خلال حمل الجمهور على
ربط الهيبيز بالماريوانا والسود بالهروين، ثم بعد ذلك تجريم كل منهما بشدة، سيكون
بإمكاننا تعطيل نشاط الطرفين. بإمكاننا أن نعتقل زعماءهم، ونداهم بيوتهم، ونفرق
اجتماعاتهم، ونشيطنهم ليلة تلو أخرى في أخبار المساء. هل كنا نعلم بأننا كنا نكذب
بشأن المخدرات؟ بالطبع كنا نعلم."
أبدى السياسيون اهتماماً أقل بمعالجة الظروف
التي أدت إلى ممارسة العنف في مجتمعات السود داخل المدن – ومنها انتشار الأسلحة
وسهولة الحصول عليها، والفجوة الهائلة والمستمرة في الثروة، وآثار الإجراءات
الشرطية العنيفة والاعتقالات الجماعية. ولم عساهم يهتمون؟ مادامت هذه الظروف قائمة
ومستمرة، فإن بإمكان السياسيين من كلا الحزبين الترشح للمناصب مستغلين حالة الخوف
ومتعهدين برد فعل صارم. ولقد حذرت موريسون في خطابها الذي ألقته في عام 1995 من أن
هذه الظروف توفر الأرضية الخصبة لتنامي حركة فاشية تستهدف في نهاية المطاف
الديمقراطية نفسها.
في صورتها الأخيرة، والتي اتخذت شكل رد فعل
ضد احتجاجات "حياة السود تهم" وكذلك شيطنة أنتيفا والنشطاء من الطلاب،
عملت الحركة الاجتماعية والسياسية الفاشية على تغذية نيران العنف السياسي اليميني
الجماعي، وذلك من خلال تبرير ارتكابه ضد هؤلاء الأعداء الداخليين المفترضين.
وفي مقال نشر في شهر أكتوبر / تشرين الأول
2021، وثقت ريشل كلاينفيلد ارتفاعاً في شرعنة العنف السياسي داخل الولايات
المتحدة. وبحسب ما ورد في المقال فإن "الفكرة الأساسية التي توحد المجتمعات
اليمينية التي تقر العنف هو الزعم بأن الرجال المسيحيين البيض في الولايات المتحدة
يواجهون تهديداً ثقافياً وديموغرافياً يتطلب الدفاع عن حياضهم – وأن الحزب
الجمهوري، ودونالد ترامب بالذات، هو الذي سينقذ طريقة معيشتهم."
هذا النوع من تبرير العنف السياسي فاشي طبق
الأصل – حيث تتوجه مجموعة سائدة تشعر بأنها مهددة بالمساواة من حيث النوع أو العرق
أو الدين نحو زعيم يعدها برد عنيف.
كيف تنقلب على الديمقراطية
نحن الآن في المرحلة القانونية من الفاشية.
بحسب ما أورده المركز الدولي من أجل قانون لا يجني أرباحاً، فقد نظرت خمس وأربعون
ولاية في 230 مشروع قانون لتجريم الاحتجاجات، مبررة ذلك بالتهديد الذي قد يشكله
اليسار الممارس للعنف أو التمرد الذي ينفذه السود. أن يحدث ذلك في نفس الوقت الذي
تم فيه سن العديد من مشاريع القوانين الانتخابية التي تمكن مجالس الولايات
التشريعية ذات الأغلبية الجمهورية من قلب نتائج الانتخابات يفيد بأن الهدف الحقيقي
من مشاريع القوانين الخاصة بتجريم الاحتجاجات هو تجهيز الرد على الاحتجاجات
المتوقعة ضد سرقة الانتخابات في المستقبل (الأمر الذي يذكر بالارتباط التاريخي
للفاشية بكبار الأعمال بدليل أن بعض هذه القوانين التي تجرم الاحتجاجات سنت في
مناطق محاذية لخطوط الغاز والنفط).
استخدم النازيون البلشفية اليهودية عدواً
ركبوه خصيصاً لتحقيق غاياتهم. أما الحركة الفاشية داخل الحزب الجمهوري فتحولت
بدلاً من ذلك نحو نظرية العرق الحرج. تتغذى الفاشية على السردية التي تفترض ارتكاب
إهانة قومية على يد أعداء داخليين. والاستراتيجية التقليدية التي تنتهجها الفاشية
لإثارة الغضب والاستياء هي رفع راية الدفاع عن أمجاد خرافية وعن ماض قومي تليد
وتصوير أعدائها على أنهم يطعنون الأمة ويشوهونا في عيون أبنائها. باستخدام عفريت
نظرية العرق الحرج، قامت تسع وعشرون ولاية باقتراح مشاريع قوانين تقيد التدريس حول
العنصرية والتحيز الجنسي في المدارس، وقامت 13 ولاية بالفعل بتطبيق ذلك الحظر.
إن من أهم أركان الديمقراطية أن يكون لدى
الناخبين معرفة. وذلك أن الناخبين الذين لديهم معرفة بالظلم العرقي المستمر في
الولايات المتحدة بكل أبعاده، من الفجوة في الثراء بين الأعراق إلى آثار المبالغة
في الإجراءات الشرطية والاعتقالات، لن يستغربوا من أحداث التمرد السياسي الجماعي
في مواجهة الرفض المستمر لمعالجة هذه المشاكل. أما الناخبون الذين يجهلون هذه
الحقائق فسوف يتفاعلون ليس انطلاقاً من الفهم وإنما من خوف ورعب قائم على الجهل
تجاه الاضطراب السياسي الذي يقوم به السود.
في بعض الأوقات يمكن تقفي آثار الحركة
الفاشية إلى منشأها من خلال الأثر النازي على زعمائها، كما هو الحال مع منظمة آر
إس إس في الهند. أما في الولايات المتحدة فالعلاقات السببية تسير في الاتجاه
المعاكس تماماً. وكما يبين جيمز ويتمان في كتابه الذي صدر عام 2017 بعنوان
"نموذج هتلر الأمريكي: الولايات المتحدة وصناعة قانون العرق النازي"،
أثرت حقبة جيم كراو في الولايات المتحدة في القانون النازي. في عام 2021، أجاز
المشرعون في 19 ولاية قوانين تجعل الوصول إلى صناديق الاقتراع أشد صعوبة، بعضها
صمم خصيصاً، وبشكل متعمد، للتأثير على مجتمعات الأقليات (كما حصل في تكساس). من
خلال إخفاء الحقائق حول هذه الحقبة في نظامنا التعليمي يمكن للمرء أن يموه إعادة
ظهور التشريع الذي يستمد مبرراته من تلك الاستراتيجيات.
وبالفعل، لقد تم استعارة أسلوب تقييد
المعلومات المهمة سياسياً وحجبها عن تلاميذ المدارس من حقبة جيم كراو. كان
"إهمال التعليم السياسي" هو عنوان الفصل التاسع من كتاب كارتر جي وودسون
الصادر في عام 1933 تحت عنوان "إساءة تعليم الزنوج". يصف وودسون في ذلك
الفصل كيف كان يدرس التاريخ لغايات "استعباد العقل الزنجي" من خلال
تبييض صفحة الاسترقاق الوحشي والجذور الحقيقية للتباينات العرقية وأسبابها. في كتابه
بعنوان "الهروب التعليمي: كارتر جي وودسون وفن تعليم السود" يوثق جارفيس
غيفنز الاستراتيجيات التي استخدمها معلمو السود لتعليم التاريخ في البيئات المقيدة
داخل مدارس جيم كراو، وهي استراتيجيات تغدو، ويا للمأساة، ضرورية للمعلمين تارة
أخرى في يومنا هذا.
تفرض الأيديولوجيا الفاشية بصرامة توزيع
الأدوار الجندرية وتقيد حرية النساء. وهذا بالنسبة للفاشيين جزء من التزامهم بما
يفترضون أنه "النظام الطبيعي" الذي يكون فيه الرجال فوق النساء. كما أنه
جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الفاشية التي تسعى لكسب المحافظين اجتماعياً والذين
قد لا يسرهم الفساد المتفشي في الحكم الفاشي. استهدفت "أيديولوجيا
الجندرية" من قبل قادة السلطويين ينتسبون إلى اليمينيين المتطرفين في كثير من
أرجاء العالم، مثل زعيم البرازيل جير بولسونارو وزعيم المجر فيكتور أوربان وزعيم
روسيا فلاديمير بوتين، تماماً كما استهدفت النازية الأنثوية من قبل. لم تفتأ
الفاشية تعارض حرية اختيار المرء لدوره في المجتمع، معللة ذلك بأنها حرية تتعارض
مع "النظام الطبيعي".
طبقاً للأيديولوجيا الاشتراكية القومية يعتبر
الإجهاض في أي مرحلة من مراحل الحمل جريمة قتل. وكما أنه كان مقبولاً قتل المعوقين
وغيرهم من المجموعات التي كانت تعتبر هويتها مصدر خطر على صحة "العرق
الأرياني"، فمن المقبول ممارسة الإجهاض بحق أعضاء ينتسبون إلى هذه المجموعات.
خلال السنوات الست الأولى من الحكم النازي، أي من 1933 وحتى 1939، تعرضت حركة
تحديد النسل إلى قمع شديد، وتزعم الغستابو حملة عقابية بحق الأطباء الذين كانوا
يجرون عمليات الإجهاض على النساء من عرقية الأريان. ولذلك فإن الهجوم الأخير على
حقوق الإجهاض والهجوم المقبل على تحديد النسل، والذي تتزعمه المحكمة العليا ذات
التوجه اليميني المتشدد، كل ذلك ينسجم مع فرضية أننا، هنا في الولايات المتحدة،
نواجه إمكانية حقيقية بتشكل مستقبل فاشي.
إذا أردت أن تسقط ديمقراطية ما، فعليك أن
تستولي على المحاكم. خسر دونالد ترامب الصوت الشعبي لصالح هيلاري كلينتون في عام
2016 بما يقدر بثلاثة ملايين صوت، ومع ذلك فقد عين ثلث أعضاء المحكمة العليا، منهم
ثلاثة من القضاة الشباب من أصحاب التوجه اليميني المتطرف، والذين سيبقون في
مناصبهم لعقود قادمة. على مدى ما يزيد من عقد من الزمن، مكنت محكمة روبرتس الهجوم
على الديمقراطية من خلال نقر الثقوب في قانون حقوق التصويت على مر الزمان، مما
أطلق العنان أمام أموال الشركات لتدخل إلى العملية الانتخابية وسمح بالتلاعب
الحزبي بنتائج الانتخابات. وثمة من الأسباب ما يدفع نحو الاعتقاد بأن المحكمة
لديها الاستعداد للسماح بانهيار الديمقراطية طالما تم تمرير قوانين من قبل مجالس
الولايات التي يهمين عليها الجمهوريون تشرعن الممارسات غير الديمقراطية بما في ذلك
سرقة الانتخابات.
تشهد الولايات المتحدة حركة فاشية اجتماعية
وسياسية ما لبثت تنمو منذ عقود. ومثلها مثل غيرها من الحركات الفاشية فإنها مليئة
بالتناقضات، ولكن هذا لا يقلل من تهديدها للديمقراطية. ما من شك في أن دونالد
ترامب مستبد ذو تطلعات وطموحات تتعلق بحبه الشخصي للسلطة ورغبته في تحقيق المزيد
من المكاسب المادية. ولكنه من خلال تزويده لهذه الحركة بزعيم سلطوي على النمط
الكلاسيكي، فقد عمل ترامب على تشكيلها ومفاقمتها، بل واستغل موقعه في السلطة حتى
يطبعها.
لقد أثبت دونالد ترامب للآخرين ما الذي يمكن
أن يتحقق. إلا أن الحركة الفاشية التي يقودها الآن كانت موجودة من قبله، ولسوف
تبقى من بعده. وكما حذرت توني موريسون، إنها حركة تتغذى على الأيديولوجيات ذات
الجذور العميقة في التاريخ الأمريكي. وسيكون من الخطأ الجسيم الظن بأنها في النهاية
لن تربح.