ندوة السفراء والقناصلة والمبعوثين الدبلوماسيين، التي نظمتها الرئاسة الجزائرية الأسبوع الماضي وافتتحها الرئيس عبد المجيد تبون، تشبه حدثا نادرا في تاريخ وزارة الخارجية الجزائرية، تشبه الندوة، التي حضرها مئات الدبلوماسيين، التقليد الفرنسي الذي يجمع الرئيس (بغض النظر عن اسمه وانتمائه) كل صيف مع سفراء بلاده عبر العالم، أثناء وجودهم في باريس في إجازة سنوية أو زيارات استشاراتية وتوجيهية.
أسدى الرئيس تبون الكثير من التوجيهات، خصوصا في الشق المتعلق بالعلاقة بين الجزائريين في الخارج وسفارات بلادهم وقنصلياتها، وهي علاقة فاترة وأحيانا منعدمة إلا في حدودها الدنيا.
في العموم، تعاني الدبلوماسية الجزائرية من مشكلتين: تمدد الممارسات البيروقراطية السلبية التي في الداخل إلى القنصليات والسفارات، والرومانسية المفرطة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الدولية وتجاذباتها.
في الشق الأول من هذه الثنائية، لا تختلف علاقات جزائريي المهجر بقنصلياتهم عن علاقات بقية الجزائريين بالمؤسسات الإدارية والقانونية داخل البلاد. الجزائري في الخارج يعاني مع الخدمات القنصلية مثلما يعاني جزائريُ الداخل مع البلدية والولاية وإدارات الكهرباء والبناء والسجل التجاري.. إلخ.
في أغلب الحالات، الأفراد في القنصليات طيبون ومتفهمون، ويؤمنون بأن الوضع أعوج لا يطاق. لكن "المطحنةط تضعهم في منطق آخر يجعل من الكثيرين منهم اثنين في واحد. إنسان طيب على الصعيد الشخصي، وسلبي كموظف. من النادر أن تُحدِّث جزائريا في المهجر عن معاملة ما في القنصلية حيث تقيم، ولا يرد ناصحا بأن ترى فلانا، وهو قريب فلان أو صديق شقيق زوجة علّان! هي دائما نصائح بسلك طريق موازٍ عساه يسهّل معاملة هي سهلة ومن أبسط حقوقك.
حدث هذا معي أكثر من مرة. في إحدى إجازاتي في الجزائر التقيت بالصدفة شخصا أعرفه منذ الطفولة بدا لي أنه تسلّق نصيبه في سُلّم التأثير الاجتماعي. بعد الترحيب الأول قفز إلى الموضوع الذي لا بد منه: إذا احتجت شيئا في القنصلية اسأل عن فلان من طرفي! مرة أخرى التقيت شخصا لا تربطني به قربى أو صداقة، وبسرعة أبدى أسفا أقرب إلى العتب لأن لا أحد أبلغه سلفا بموعد وصولي لكي يُيّسر أموري اللوجستية في المطار (تيسير الأمور هنا يعني أن يقفز بك طوابير الجوازات والجمارك على حساب مسافرين منهكين مثلك بينهم عائلات وأطفال، وغيرها من التصرفات التي لا تسعدني ولا أرضاها لنفسي).
في الحالة الجزائرية يشبه الأمر باخرة كبرى مطلوب منها تغيير مسارها وسط ظروف مناخية صعبة وعواصف. مهمة معقّدة لكنها غير مستحيلة عند ربّان ماهر يعرف ماذا يريد.
اليوم تبدو الدبلوماسية الجزائرية سجينة شعارات وتوجهات تخلى عنها حتى الذين أوجدوها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
ستستوي العلاقة بين الجزائريين في الخارج وقنصليات بلادهم، يوم يتصالح الجزائري في الداخل مع إدارته وتستوي العلاقة بينهما. مطلب الجميع، بدون استثناء، يجب أن يكون إنقاذ الجزائريين البسطاء من شرك البيروقراطية والإذلال الإداري. الوجه الآخر لثنائية الدبلوماسية الجزائرية يخصّ الدولة ومصالحها.
اليوم تبدو الدبلوماسية الجزائرية سجينة شعارات وتوجهات تخلى عنها حتى الذين أوجدوها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثل "دعم الشعوب في تقرير مصيرها" و"عدم التدخل في شؤون الآخرين".
قليلة جدا الدول التي تواصل الإيمان بهذه الشعارات. وقليلة أصلا الشعوب التي لا زالت تطالب بتقرير مصيرها إذا استثنينا الفلسطينيين وجزءا من سكان الصحراء الغربية. ولأن طبيعة الاستعمار تغيّرت والدول الوطنية التي استقلت عن الاستعمار الغربي في النصف الثاني من القرن الماضي أخفقت في تحقيق طموحات شعوبها وأحلامها، انعكست الآية اليوم ولم يعد الاستقلال هو المطلب الأول.
هناك شعوب تحلم بعودة الاستعمار السابق. وهناك شعوب تفعل المستحيل للذهاب إلى الاستعمار شمالا عندما تأخر في العودة! وهناك شعوب مستعمَرة حتى بدون استعمار حضوري. بين المستعمرات الفرنسية والبريطانية وأراضي ما وراء البحار والمحيطات، لا توجد اليوم حركات قوية تطالب بالاستقلال وتقرير المصير. في أفضل الأحوال هناك مطالب بالمساواة وتحسين مستوى المعيشة.
بل هناك خوف من المستقبل في حال اضطرت هذه المجتمعات الفقيرة والمسالمة المنسية وسط محيطات لا نهاية لها، إلى الاستقلال والتكفل بمصيرها لأي سبب من الأسباب. "عدم التدخل في شؤون الآخرين" هو أيضا شعار لا مكان له في عالم اليوم، وسياسة باتت شيئا فشيئا سلبية. هناك شعوب عاجزة عن حل مشاكلها بمفردها. التدخل يصبح أحيانا حقك وواجبا عليك. يكون شعار عدم التدخل مفهوما عندما يتعلق الأمر بأخطار وأزمات لا تعنيك جغرافيا واستراتيجيا ولا تؤثر على أمنك ومصالحك المباشرة.
ويصبح ذا جدوى أيضا إذا آمن به المجتمع الدولي والتزم بتنفيذه وفرضه على الجميع. أما عندما يتحول إلى الاستثناء وسياسة الأقلية، فيصبح مُضرّا، وليبيا نموذج: ما جدوى أن تتمسك الدبلوماسية الجزائرية بعدم التدخل في ليبيا بينما كل العالم يصب مرتزقته وأسلحته هناك، ويحرّض على القتل والقتال؟ إذا كانت هناك دولة يحق لها التدخل في ليبيا بالطريقة التي تراها مناسبة فهي الجزائر (وكذلك تونس). الامتناع عن التدخل هنا يعني التأخر في التحكم في حريق يزحف نحوك.
واقع الدبلوماسية الجزائرية اليوم هو ثمرة 30 سنة من الحلم والرومانسية، أعقبتها 30 أخرى من الانكفاء بسبب الحرب الداخلية وجنون عظمة المخلوع بوتفليقة. عندما أرادت أن تستفيق وجدت أن مياها كثيرة جرت من تحت الجسر.
العمل الدبلوماسي الدولي يحتاج إلى واقعية تديرها ماكينة متناسقة تعمل بفعالية ولا تخشى التضحية بشعارات تجاوزها الزمن. في الحالة الجزائرية يشبه الأمر باخرة كبرى مطلوب منها تغيير مسارها وسط ظروف مناخية صعبة وعواصف. مهمة معقّدة لكنها غير مستحيلة عند ربّان ماهر يعرف ماذا يريد.