الانقلاب العسكري الذي حدث في السودان الأسبوع الماضي متناسق تماما ومنسجم كل الانسجام مع ذهنية عسكرية تُمسك بأنفاس منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ نشأة الدول الوطنية المستقلة في منتصف القرن الماضي.. ذهنية توارت قليلا لبعض الوقت لكنها لم تختف كليًّا. وبعد ذلك، الانقلاب هو حلقة أخرى من عاصفة معاكسة لصيرورة التاريخ تشهدها المنطقة العربية منذ 2013.
لهذا لم يأت الجنرال عبد الفتاح البرهان ورفاقه من ضباط على رأس الجيش السوداني بأيّ جديد، ولم يخترعوا أيّ فكر أو فلسفة خارقة للعادة. كل ما هنالك أنهم نهلوا من ماضٍ إقليمي مثقل بالتجارب الانقلابية، ليمارسوا دورهم في الحفاظ على الموسم الجديد من مسلسل الانقلابات العربية كي يبقى متَّقدا. بدأ المسلسل الجديد في مصر عام ألفين وثلاثة عشر، ومضى متحديا منطق التاريخ والطبيعة، إلى أكثر من بلد لتكون السودان آخر حلقاته وقبلها تونس.
من الإنصاف القول إن الفضل في استمرار المسلسل ليس حنكة جنرالات لم ينتصروا في معركة واحدة طيلة حياتهم الوظيفية، بل بفضل تحريضٍ ودعمٍ مالي من دول خليجية عربية. وأيضا بفضل صمت غربي أقرب إلى التواطؤ، تحركه الرغبة في الحفاظ على المصالح الاقتصادية والخوف من الاضطرابات وما يترتب عنها انتشار للإرهاب وقوافل اللاجئين.
كان الانقلاب في السودان مسألة وقت فقط. كان السؤال «متى» سيحدث وليس «هل» سيحدث. كانت رائحته تغطي المكان، بيْدَ أنه غاب فقط عن إدراك رئيس الحكومة عبد الله حمدوك وشلَّة المدنيين الذين كانوا ماسكين بفتات الحكم. بذور الانقلاب زُرعت يوم وافق المدنيون على تقاسم الحكم مع عسكريين قفزوا من مركب عمر البشير عندما آل للغرق، والتحقوا بالثورة الشعبية في ساعاتها الأخيرة ليفرضوا أنفسهم حماتها وركيزتها الأبرز. اتضحت نوايا العسكريين منذ البداية عندما تمسكوا بأن يكونوا أول من يرأس مجلس السيادة ضمن الاتفاق على التداول على الحكم مع المدنيين. قفزوا إلى المقدمة حتى يتسنى السيطرة على الوضع وترتيبه بشكل يحمي مصالحهم ويوفر لهم الأمان والحماية.
لماذا تصرف العسكريون هكذا منذ البداية؟ الجواب هو مفتاح تفسير ما سيأتي لاحقا: لأنهم لا يثقون في المدنيين ولا يحبونهم! وهذه الحقيقة ليست حكرا على السودان، بل هي ذهنية سائدة بين أغلب قادة جيوش الدول المتخلفة، وخصوصا العربية. مَن يتأمل شكل ومضمون خطابات الرئيس عبد الفتاح السيسي يلمس فيها قدرا غير قليل من الغرور الذاتي والشعور المتضخم بالتفوق إلى حد يكاد يلغي وجود 100 مليون مصري.
ومَن تابع خطاب البرهان، خصوصا في الأسابيع التي سبقت الانقلاب، لابد أنه لمس ذلك الإصرار المتكرر على التقليل من شأن المدنيين وإعلاء شأن العسكريين ومنحهم الفضل في استمرار الدولة واستقرارها. الصحافيون والسياسيون الذين جلسوا مع اللواء خالد نزار، وزير الدفاع الجزائري السابق، لا شك انتبهوا إلى لغته الموغلة في العلو في «نحن» و«أنتم».
في العالم كله هناك اختلاف في الذهنية بين المدني والعسكري، تفرضه طبيعة كل معسكر وخصوصيته. لكن عند العرب هو اختلاف يحركه الغرور وعقدة التفوق لدى طرف، وإحساس الطرف الآخر بالدونية واستسلامه لمشاعر المعسكر الأول تجاهه.
ما حدث في السنوات الأخيرة في الدول العربية التي شهدت ثورات، هو فقط انبعاث لعقيدة أمنية وعسكرية موجودة منذ نشأة الدولة الوطنية، وثقافة تمجّد العسكري على حساب المدني وتسوِّقه على أنه الأكثر انضباطا وفائدة وحبا للوطن وخوفا عليه.
الأمانة تُحتّم القول إن هيمنة الذهنية العسكرية في المجتمعات العربية لا يتحمل مسؤوليتها العسكريون وحدهم. هناك طيف واسع في أكثر من بلد يرافق هذه الذهنية ويرعاها. ثم يخرج برأسه عند الحاجة، كما هو الحال في السودان هذه الأيام، ليبرر تصرفات العسكريين وأخطائهم. في كل بلد وفي كل أزمة، في الماضي والآن، تبرز قوى سياسية تفرش الأرضية للتدخل العسكري في الشأن المدني، وشعارها أن «لا شيء يمكن أن يتم من دون العسكر أو على حسابهم» وأن «الجيش هو المؤسسة الوحيدة القوية والمستقرة». قد تكون هذه الشعارات صحيحة بالنظر إلى هشاشة مؤسسات الحكم وغياب البدائل أو فسادها، لكن الشيطان في التفاصيل وفي رسم حدود ومساحات ما يجب وما لا يجب. رغم اختلاف خصوصيات كل بلد وتفاصيله، يبقى القاسم المشترك بين الانقلابات العربية الجديدة أن اللمسة الأمنية/العسكرية حاضرة وهي المحرك، حتى لو كان «الرأس» مدنيا، كما هو الحال في تونس التي قاد رئيسها قيس سعيّد ثورة داخلية أصبحت بسرعة انقلابا ما كان لينجح ويستمر لولا التزكية العسكرية.
لا شك أن الثورات العربية تعثرت كثيرا وحتى فشلت في كثير من المحطات وخيّبت آمال شعوبها ومَن قادوها. يتحمل الكل، خصوصا تيارات الإسلام السياسي، مسؤولية كبرى في هذا الإخفاق. لكن بغض النظر عن أسباب الفشل وتفاصيله، لا مكان للحلول الأمنية والانقلابات العسكرية كبديل، لأنها لن تكون أبدًا هي الطريق الناجع. وواهمون الذين يؤمنون بأن البرهان ورفاقه، أو عبد الفتاح السيسي أو خليفة حفتر (إذا مُكِّنَ من الكرسي يوما) سيُسلّمون الحكم يومًا للمدنيين ويعودون إلى بيوتهم. ولا يختلف حال الدول العربية الأخرى.
بات واضحا أن قادة الجيوش في دول المنطقة العربية لن يرتاحوا ولن يُريحوا، وأن ثقتهم في المدنيين لا تزال حلما بعيد المنال. لكن، أيضا، بات ضروريا جدا إطلاق نقاش هادئ حول الجنرالات وهل هم جزء من المشكلة أم من الحل.. والعلاقة بين العسكر والمدنيين.. ما لها وما عليها بعيدا عن الخطاب المُعلَّب والشعارات الرنانة التي تصدح بها يوميا لغة الحكام ووسائل إعلامهم.
(نقلا عن القدس العربي)