قيم الجمهورية التي يتغنى بها قانون ماكرون الأخير، لا يعدو أن يكون أداة أخرى من أدوات الإسلاموفوبيا ومحاربة انتشار الإسلام والمسلمين في فرنسا بالأساس وفي العالم ككل، كظاهرة فريدة لا ينافسها تطور وانتشار ديني آخر على الإطلاق.
الإسلاموفوبيا الفرنسية، هي اليوم تمثل شكلا من أشكال الحرب الصليبية المتأخرة، باسم الحفاظ على “قيم الجمهورية”، التي لم تتمكن من تحقيقها في مستعمراتها القديمة، تعمل على تطبيقها اليوم على مواطنيها المسلمين من الدرجة الثانية.
تاريخيا، تمكنت الكنيسة من التوغل في الوسط الأوروبي في الجزائر، في بداية الأمر، تمهيدا للمهمة الكبرى: “إعادة أمجاد كنيسة القديس أوغيستان (St Augustin)، التي وجدت على هذه الأرض منذ القرون الأولى لهذه الحقبة التاريخية، والمطالبة “برد الإيمان المسيحي لشعب أدخل قهرا إلى الدين الإسلامي..”) آني ري غولدزيغر. المملكة العربية ص 94.
إلا أن هذا التوغل داخل المجتمع الكولونيالي – الذي تم بطريقة عادية ولم تشكل هذه العملية أي شكل من أشكال الوخز الاجتماعي والسيكولوجي، رغم “العداء” الظاهري تجاه رجال الدين المسيحيين – باعتبار أن الكنيسة مظهر عمراني مألوف في الوسط الأوروبي، ولو كان هؤلاء الأوروبيون المعمرون غير متدينين عملا، بل وقد دخلت الكنيسة في الطقوس التقليدية والفلكلورية للمجتمع الأوروبي بالجزائر، كحاجة لتليين الشعور “بالغربة الاختيارية” للمعمرين المهاجرين إلى بلد، لا تربطهم به أية رابطة غير رابطة الربح ورأس المال. ولم يكن غريبا أن نجد الحاكم العام – المصنف ضمن التيار العسكري العربوفوني، المارشال” Randon “، على بروتستنتيته – يساهم فيما بعد في إنشاء وتشجيع الكنائس الكاثوليكية في الجزائر المستعمرة. (أ.ر.غ ص 95).
من هذا المنطلق، دخلت الكنيسة كمؤسسة استعمارية رابعة بعد الجيش والإدارة والمعمرين، لتصبح جزءا من السياسة الفرنسية في الجزائر ابتداء من هذا العهد، الطابع الصليبي الشمولي.
وليس من الغرابة أن نجد “هوراس فيرني” – منفذ حملة إخضاع بلاد القبائل إثر ثورة المقراني، يحتفل بذكرى احتلال بلاد القبائل (1871) – من خلال قدّاس الأحد، بقوله: “الأب سوشي “Suchet يبارك بحضور المارشال “Randon” وقواته المظفرة، هذا الظفر المزدوج، رمز الاستعمار العسكري والمسيحي. “الكنيسة سوف تجد دعمها فيما بعد لدى كبار المعمرين: Du prés de St Maure,Tonnac, Vialar … وغيرهم، الذين سيشكلون أعمدة “الكنيسة الأفريقية”.
نشير إلى أنه كان آخر كتاب للأسقف (Pavy) هو الكتاب الذي يحمل عنوان: “التاريخ النقدي لديانة القديسة مريم العذراء في أفريقيا” (بالفرنسية): كتاب يتحدث عن “ذكريات مسلم اعتنق المسيحية، وفضل الشهادة على أن يعود إلى الإسلام ثانية”. والإشارة واضحة هنا كما تشير إلى ذلك “غولدزيغر” ص 96: لا بد من العمل على “..إعادة تمسيح أرض أفريقيا أرض كل من…”Tertullien, Cyprien, St-Augustin…”.
هذا التشجيع، وهذا الدعم الكبير سيفتح شهية الأسقف “Dupuch” لتحقيق “فتح” أفريقي كبير، بدأ من الجزائر وشمال أفريقيا. عندئذ يتذكر”Dupuch” صاحب فكرة “إعادة تمسيح كل الجزائريين المسلمين قهرا”، فيستدعيه أخيرا للاستفادة من خدماته بعد أن استقام له عود التمسيح الآن، واقتنع بأن الظروف المادية -وحتى النفسية- أصبحت أكثر تشجيعا على المغامرة من جديد، فينتقل إلى تنفيذ أول عملية على طريقة “إعادة التنصير”، ممثلة في “محاربة القرآن بالدرجة الأولى من خلال دراسات ثيولوجية”، ثم عن طريق الشروع في تمسيح تجريبي – تمهيدا للتعميم – حول فيها أطفال العائلات الفقيرة واليتامى إلى “فئران بيضاء”، في مخابر الآباء البيض. هذه المخابر التي لم تكن سوى تلك الأديرة المسماة بـ”الملتقيات”(Séminaires) منها “ملتقى بئر خادم”، الذي استقبل سنة 1860 الدفعة الأولى من هؤلاء الأطفال التجريبيين.
الشروق الجزائرية