امتدت الهبة الشعبية الرمضانية المقدسية، في الشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى، إلى التجمعات الفلسطينية كافة، بمن فيهم الفلسطينيون في الجليل والمثلث والنقب والساحل، حيث وفد إلى القدس عشرات الآلاف منهم وانتفضوا في بلداتهم، إسنادا لأهلهم في الشيخ جراح ونصرة للأقصى واحتجاجاً على الحرب الإجرامية القذرة، التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وتعبيرا عن غضبهم على سياسات التمييز والتهويد والقمع والبطش بهم.
ليست هذه الهبة خطوة خاصة بفلسطينيي الداخل، بل هي مشاركة فعالة ومهمة في الموجة الانتفاضية العارمة، التي قام بها الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة. هي بهذا تفسر ذاتها، بأنها تندرج في إطار بديهة أن الباقين في وطنهم في إطار المواطنة الإسرائيلية، التي فرضت عليهم بعد النكبة، هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، يتألمون لآلامه وهي كثيرة، ويفرحون لأفراحه على قلتها.
هذه الهبة هي تمرد على تجزئة الشعب الفلسطيني، فحتى لو كان تقسيم الشعب الفلسطيني إلى غزة وضفة وقدس وداخل وشتات، هو أمر واقع على الأرض، إلا أنه مرفوض في الوعي والوجدان، فالانتماء هو انتماء مباشر للكل الفلسطيني، والهوية هي عربية فلسطينية غير مؤسرلة.
لقد عززت الهبة الروابط الوطنية والإنسانية بين الفلسطينيين، على طرفي الخط الأخضر، وكل من حاول في الآونة الأخيرة السير بالاتجاه المعاكس وراهن على التذيل لليمين الصهيوني، أو اليسار الإسرائيلي أو كليهما، خسر الرهان، وخسارته هذه هي مكسب صافٍ للشعب.
ما حرك الهبة في الداخل هو الحراك في القدس؛ فقد ألهمت مظاهرات الشباب المقدسي ضد نصب الحواجز في مدرج باب العامود، وصدام الشيخ جراح ومواجهات المسجد الأقصى، أبناء وبنات شعبنا في الداخل، وبالأخص الشباب، فخرجوا إلى الشوارع بالآلاف للتعبير عن غضبهم وسخطهم، وشد الآلاف منهم الرحال إلى الشيخ جراح والمسجد الأقصى، وشاركوا في المعركة جنبا إلى جنب مع أهل القدس. وما من مشهد يعبر عن هذا الالتحام مثل مشهد الآلاف وهم يسيرون مشيا باتجاه القدس عشية ليلة القدر، بعد أن أوقفت الشرطة الإسرائيلية الحافلات التي أقلتهم، فهب أهل القدس بسياراتهم وحافلاتهم، إلى الشارع السريع بين القدس ويافا ونقلوهم إلى المسجد الأقصى.
القمع والبطش
ما إن هبت الجماهير إلى الشوارع، حتى سارعت الشرطة الإسرائيلية إلى محاولة قمع المظاهرات والاعتداء على المحتجين، وجرح المئات واستشهد الشاب محمد محمود محاميد برصاص الشرطة، خلال المواجهات ليلة العيد في أم الفحم. لقد تبين مرة أخرى أن إسرائيل لا تحترم"المواطنة الإسرائيلية" التي يحملها فلسطينيو الداخل وتتعامل معهم، عند الأزمات، كأعداء وليس كمواطنين. هذا بالضبط ما قام به الأمن الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 2000، حين اغتال 13 شخصا في مظاهرات الغضب، التي اجتاحت مدن وقرى الداخل احتجاجا على العدوان على المسجد الأقصى. قد تتحمل المؤسسة الإسرائيلية المواطن العربي وهو يطالب (بأدب) بمصالحه المدنية، لكنها تبطش به حين يطلب حق الكلام كصاحب الوطن والبلد، للتعبير عن غضبه على السياسات العدائية تجاهه وتجاه شعبه.
فحتى حين قام شباب مدينة أم الفحم في شباط/فبراير الماضي بالاحتجاج السلمي على تفشي العنف والجريمة، وعلى تواطؤ الشرطة، اعتدت عليهم الشرطة بالعنف والوحشية، ما أدى إلى جرح العشرات منهم. فالقضية بالنسبة لإسرائيل ليست مضمون الاحتجاج فحسب، بل هوية المحتجين أساسا.
لقد جرح المئات نتيجة قمع الشرطة، وفاق عدد المعتقلين الألف معتقل، وقدمت لوائح اتهام ضد المئات منهم. في المقابل ليس هناك في السجون معتقلون يهود ولم تقدم لائحة اتهام ضد أي يهودي، على الرغم من وجود أشرطة وأدلة دامغة تدين المستوطنين اليهود، بتهم محاولة القتل والحرق والاعتداء وإطلاق النار، وحتى من قاموا باغتيال مواطن اللد، جرى إطلاق سراحهم. العنصرية تنخر عميقا في البوليس الإسرائيلي، أكثر بكثير من الشرطة الأمريكية، التي تتبع سياسات أكثر لينا تجاه السود.
هبة الساحل الفلسطيني
كانت مدن الساحل الفلسطيني ساحة لأعنف المواجهات وأشدها، حيث بادر أهلها إلى التظاهر والاحتجاج على ما يجري في القدس، فواجهتهم الشرطة الإسرائيلية بقمع إجرامي غير مسبوق، وقامت هذه الشرطة بحراسة قطعان اليمين الفاشي العنصري وهم يعتدون على المتظاهرين العرب، وعلى المارة وعلى الناس في بيوتها. لقد اجتاحت عشرات مظاهرات الغضب شوارع عكا وحيفا واللد والرملة ويافا. والغضب هنا ليس على ما يحدث في الأقصى وفي الشيخ جراح فحسب، بل لأن هناك جروحا مفتوحة لا تختلف عما يجري في الشيخ جراح، حيث تقوم إسرائيل في هذه المدن بتنفيذ مخطط تطهير عرقي استمرارا لما كان في النكبة.
في مدن الساحل ما زالت ذاكرة النكبة حية، وهي تواجه ما يواجهه الشيخ جراح من مشاريع اقتلاع وزرع للمستوطنين في قلب الأحياء الفلسطينية. والعدوان على الناس، هنا وهناك، يجري تنفيذ عدوان مشترك للشرطة ولقطعان المستوطنين. في مدن الساحل وفي الشيخ جراح السياسية الإسرائيلية نفسها، ما يوحي بأن المسألة ليست مسألة احتلال فقط، بل مسألة نظام أبرتهايد على كل أرض فلسطين.
المستوطنون الذي اعتدوا على أهلنا في مدن الساحل، ينتمون إلى ما يسمى «الأنوية التوراتية» وهي بؤر استيطانية جرى زرعها في قلب الأحياء التي يسكنها الفلسطينيون في يافا واللد والرملة وعكا منذ سنوات، بهدف "المحافظة على الطابع اليهودي"، وهم يفعلون ذلك عبر زرع البؤرة ثم السعي لتوسيعها، فيتصدى لهم أهل البلد، وتحدث مشاحنات من حين إلى آخر. كما يقوم المستوطنون على مدار السنة باستفزاز الناس من خلال نشر أعلام إسرائيلية كبيرة الحجم، والاحتفال بمكبرات الصوت بمناسباتهم، وشتم الناس والاعتداء على ممتلكاتهم.
وفي إطار هذا المشروع، جرى إسكان مئات العائلات اليهودية، التي تنتمي إلى التيار الديني المتطرف سياسيا. وخلال المواجهات الأخيرة استنجد هؤلاء بمئات المستوطنين من الضفة الغربية، وعلى الرغم من أن الشرطة كانت على علم كامل بحملات التجنيد والدعوة لجلب الأسلحة للاعتداء على العرب، حيث عجت بها وسائل التواصل الاجتماعي وقام البعض بجمعها وإرسالها لضباط الأمن، فهي لم تفعل شيئا لوقفهم، بل هناك أشرطة تُظهر كيف يلقي المستوطنون الحجارة على البيوت العربية والشرطة حولهم تحميهم.
تصدى الفلسطينيون في مدن الساحل لاعتداءات الشرطة والمستوطنين، وهم لا يملكون سلاحا ولا دعما من أحد، وزادت حدة ردهم بعد جرح واعتقال المئات واستشهاد موسى مالك حسونة دفاعا عن اللد وعن القدس. لقد زرت هذا الأسبوع مع زملائي في لجنة المتابعة العليا لفلسطينيي الداخل عائلة الشهيد والتقينا الوالد والوالدة والزوجة، وكان اللقاء مشحونا بعزيمة الإصرار على مواصلة النضال، والدفاع عن القضية التي استشهد موسى من أجلها. الروح الوطنية العالية نفسها، لمسناها حين زرنا عائلة المواطن وابنته، اللذين لقيا حتفيهما بعد سقوط صاروخ بجوار بيتهما، حيث قالوا لنا: «نحن نتهم إسرائيل المعتدية بما جرى». لمسنا هذه الأجواء في اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا؛ فشعبنا في مدن الساحل يشعر بالاحتقان والغضب على الدولة والحكومة في إسرائيل، وهو اليوم في الخط الأمامي لكفاح الداخل الفلسطيني.
مواصلة النضال
تتميز الهبة الحالية في الداخل الفلسطيني بأنها شاملة، وتمتد من معليا في الشمال حتى راهط في الجنوب، وشاركت فيها جميع فئات المجتمع وشرائحه، وبشكل خاص جيل الشباب. لقد قام المتظاهرون باقتحام الشوارع المركزية، وأغلقوها لساعات طويلة واصطدموا بقوات الأمن والشرطة. وشارك أكثر من 30 ألفا في مظاهرة قطرية، دعت إليها لجنة المتابعة، في مدينة سخنين، والتزمت فئات وشرائح المجتمع كافة بالإضراب العام الثلاثاء الماضي، الذي أعلنته لجنة المتابعة، وانضمت إليه الفصائل والمؤسسات الفلسطينية كافة.
أستطيع أن أجزم بأن الطاقة النضالية العفوية، التي شهدها الداخل، هي غير مسبوقة في حجمها وزخمها وحدتها وتلقائيتها، خاصة أن الشباب الغاضب هو الذي قادها ورسم إيقاعها. هذه العفوية هي ظاهرة صحية وصحيحة، ويجب تشجيعها ودعمها، بدون أي محاولة لحرفها عن مسارها المستقل.
لقد تعلمنا من تجربة الحراكات الشبابية الفلسطينية في العقد الأخير، أن أضعف حلقة فيها هي مسألة الاستمرارية والمواصلة. هي عادة ما تعتمد على الفعل المباشر، وعلى رفض الواقع، وهذا صحيح وصحي، لكنها تبتعد عن أي بنية تنظيمية ورؤية استراتيجية تضمن المضي في الفعل الكفاحي.
هنا تبرز الحاجة إلى مراجعة جدية لضمان استمرار الحراكات الشبابية، التي تؤدي دورا محوريا في هذه الهبة وغيرها. في المقابل على الأحزاب السياسية في الداخل إيجاد الطرق الكفيلة بتطوير ذاتها وعملها وصياغة برامجها وسياساتها، بما يتجاوب مع المتغيرات. الوحدة في هذه الظروف مطلوبة وضرورية، لكننا نريدها وحدة كفاحية تستند إلى المبادئ، التي اندلعت هذه الهبة على أساسها، والباب مفتوح لمن ابتعد عنها ويريد العودة إلى الصف الوطني، بعد أن يقبل بالموقف الوطني.
من هنا ننطلق مجددا ونواصل الكفاح بوحدة وطنية كفاحية فاعلة، وبحراكات شبابية ناشطة ومتحدية للغبن والاضطهاد، وبالتحام مع بقية أجزاء شعبنا، وبهمة وبعزيمة صاحب الحق، الذي يتمسك بحقه ويناضل لنيله.