بعد انقضاء عشرية أولى من الثورة التونسية،
التي اندلعت في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، والتي نحتفي حاليا بذكراها، يتجه الجميع
إلى تقييم هذه المرحلة التاريخية على جميع المستويات الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية. لنتوقف، نحن، عند التقييم الفكري الفلسفي. "عربي21" التقت المفكر
والفيلسوف التونسي فتحي التريكي وحاورته حول واقع الفلسفة في تونس والعالم العربي بعد
الثورة.
منذ صدور كتابه "الفلاسفة والحرب"
سنة 1984 وهو يخوض معركته الفكرية والفلسفية بمشاريع متنوعة بين إصدارات وكتب و"تحريضات"
فكرية على مشاريع جديدة تنهض بواقع الفلسفة في العالم العربي من مشروع "فلاسفة
قرطاج" إلى مشروع "فلاسفة القيروان" الذي صدر مؤخرا في إطار مشروع الفلسفة
في تونس الذي يديره.
ضيفنا هو المفكر والفيلسوف التونسي وأحد
المساهمين في تأسيس معهد تونس للفلسفة.. فتحي التريكي الذي تحدث بجرأته المعتادة عن
الفلسفة ليس في تونس فقط وإنما في العالم العربي. لن يتردد في ذكر نقائصها ولكن يحافظ
دائما على هذه النظرة التفاؤلية لمستقبل الفلسفة في العالم العربي.
وفي ما يلي نص الحوار:
كيف بدأت فكرة مشروع الفلسفة في تونس الذي
صدر منه مؤخرا كتاب فلاسفة القيروان؟
بدأت فكرة البحث في الفلسفة بتونس وإعداد
مشروع لدراستها في سنة 1991 عندما بعثت اليونسكو استجوابا لمعرفة وضع الفلسفة وتدريسها
في العالم. فأحدثنا فريق بحث بإدارتي يتكوّن من الأساتذة محمد محجوب وعلي الشنوفي وتوفيق
الشريف ورشيدة التريكي وحميّد بن عزيزة وعمران البوخاري والمرحوم نجيب عبد المولى،
وقدّمنا إلى اليونسكو دراسة صافية حول هذا الوضع في قالب إجابات. ثمّ بعد ذلك تكوّن
كرسي اليونسكو للفلسفة وكان من بين مهامه دراسة علاقة الفلسفة بالديمقراطيّة في تونس.
فكوّنّا فريق بحث مع مخبر الفلسفة "الفيلاب" الذي أسسته شخصيا بجامعة تونس
أوائل هذا القرن.
وبعد بحوث ونقاشات قرّرنا تكوين ثلاثة فرق
بحث يعتني الأوّل بفلاسفة قرطاج والثاني بفلاسفة القيروان والثالث بفلاسفة الحداثة،
ودامت الأشغال أكثر من سنتين، ودعونا مختصين في فلاسفة قرطاج من الجامعات الأمريكية،
وكانت نتائج هذه الأبحاث مؤتمرا عالميا نظّمه بالتعاون مع الفيلاب وكرسي اليونسكو للفلسفة
المركز العالمي للفلسفة وذلك بمقرّ اليونسكو بباريس، وأصدر هذا المركز عددا خاصا من
مجلّته التي توزّع في جميع أنحاء العالم بالتفلسف في تونس، شارك فيه جمع من أساتذة
الفلسفة بتونس وفرنسا. ثمّ أسفرت أعمالنا عن إصدار كتاب "فلاسفة قرطاج" وأعددنا
كتاب "فلاسفة القيروان" الذي لم نستطع طباعته. أمّا الفريق الثالث فقد قام
ببحوث لم نستطع تصفيفها في كتاب.
ما هي أسباب توقف مشروع فلاسفة قرطاج الذي
انطلق في 2012؟
في واقع الأمر لم نجد تشجيعا يذكر لدعم
هذا المشروع. والغريب أن كثيرا من الجامعات الأجنبية والمنظمات والمراكز خارج تونس
ومن بينها اليونسكو قد رحّبوا بهذا المشروع، ولكن في تونس هناك احتقار لا يوصف للفلسفة
وللتفكير بصفة عامّة قبل وبعد الثورة. والمهمّ عندما انتهت مدّة إدارتي لمخبر الفيلاب
أواخر سنة 2012 بحكم وصولي إلى سن التقاعد عوّضني الأستاذ الطاهر بن قيزة الذي فسخ
كلّ المشاريع التي شرعنا فيها ولم تكتمل وتلك سنّة التونسيين وللأسف.
لذلك عندما أحدثنا معهد تونس للفلسفة تبنّينا
المشروع وأصدرنا الكتابين ونحن بصدد العمل على إتمام المشروع بأبحاث حول الفلسفة في
تونس الآن. وهناك جهة لبنانيّة ستتعهّد بالمشروع لأنّ من عادة التونسيين ألا يكتبوا
عن زملائهم لا سيّما إذا كانوا أحياء.
هناك تشكيك حول وجود فلسفة في العالم العربي
لكنك تتحدث حول فلسفة في تونس، أي دلالة؟
الذين يشكّكون في وجود فلسفة في العالم
العربي قد أصابهم مرض التغريب. فهم يعترفون بمن يكتب كتابا تافها في الغرب ويطلقون
عليه اسم الفيلسوف ولا يعترفون بمن يكتب من العرب كتابا فلسفيا ولو كان من أعظم ما كتب
في الميدان. كذلك هناك من يشكّك في وجود الفلسفة في العالم العربي لأنه يعتبر أنّ الفلسفة
توقّفت مع كانت أو هيغل. المهمّ أنّ هؤلاء جميعا يحملون نظرة منقوصة عن الفلسفة التي
لا يستعملونها إلا للتدريس فقط.
وفي ألمانيا سيصدر عن قريب الجزء الأخير
من موسوعة ضخمة عن الفلسفة في العالم الإسلامي والعربي بداية من الفترة القديمة إلى
يومنا هذا باللسان الألماني، وفي السنة المقبلة سيصدر عن دار بريل الهولنديّة باللسان
الإنجليزي. فالغرب يعترف بنا ونحن لا نعترف بمساهماتنا في الفكر الفلسفي. وبالمناسبة
هناك الكثير من الفلاسفة التونسيين الذين تحدّثت عنهم هذه الموسوعة. كرسي اليونسكو
للفلسفة قد ساهم في إصدار موسوعة الفلاسفة العرب التي أعدّتها مجلّة أوراق فلسفية بالقاهرة.
للأسف جاءت في طبعة رديئة وينقصها التدقيق وذلك لعدم وجود من يدعم هذا النوع من الأعمال
في العالم العربي.
في كتاب فلاسفة قرطاج هناك إشارة إلى أنّ
أرض تونس مثلت محطة للفلسفة بعد نشأتها في اليونان. هل هناك أثر معترف به لهذا المرور؟
طبعا. للأسف نحن لا نهتمّ كثيرا بتراثنا
الفكري. فترة قرطاج التي تتسم بعمق مواضيعها بما أنها واصلت عملية التفلسف التي بدأت
في أثينا، اهتمت بالمسائل التي اهتمت بها السفسطائية الثانية –حتى ولو أن بعض مؤرخي
الفلسفة قد اعتبروا أنها فترة انحطاط الفلسفة وتراجعها- وهي مسائل اجتماعية وقانونية
وجّهت الفكر نحو تطوير الخطابة والبلاغة في فترة أولى ونحو مسائل عقدية تهتم بالخلق
وبالشأن الديني في فترة ثانية عندما بدأت المسيحية تنتشر في قرطاج. ولا بدّ من الاطلاع
على الكتاب للتأكّد من اعتراف المجموعة العلميّة العالميّة بأعمال هؤلاء الفلاسفة على
غرار ترتاليوس الذي كان هو المنظر الأوّل للمسيحيّة التي تستعملها الكنيسة الكاثوليكيّة
إلى يومنا هذا. وفي جامعة وايلز الأمريكيّة هناك فريق بحث حول فلاسفة قرطاج ومن بينهم
أغسطين.
ما هي الأحداث المقبلة ضمن هذا المشروع
وكيف تجد تجاوب الباحثين معك؟
الفترة التي يجب أن نعمل الآن على دراستها
تتمثّل في الشروط الفكريّة للتحديث الذي بدأ في أوائل القرن التاسع عشر واستمرّ بمشاكله
ومنعطفاته وتحدّياته. ففي هذه الشروط نجد مقاربات فلسفيّة عفويّة لا بدّ من توضيحها
ودراستها بعمق. كذلك عادت لنا الفلسفة من حيث هي تدريس وبحث مع البعثات التي درست بفرنسا
في النصف الأول من القرن الماضي وتمّ تدريسها أساسا في الصادقيّة وفي التعليم الصادقي
ولكنها وجدت أيضا في التعليم الزيتوني لاسيّما في الخلدونيّة. ولا بدّ أيضا من توضيح هذه المعطيات ودراستها علميّا.
وبعد الاستقلال ومع ظهور قسم الفلسفة بجامعة
تونس سنة 1964 تنوّعت البحوث الفلسفية لا سيّما بعد تعريبها سنة 1975. وهنا أيضا لا
بدّ من دراسة هذه المعطيات والإضافات الفلسفيّة التي ظهرت عند هذا الجيل على النطاق
الوطني وفي المجال العربي والعالمي. وهناك من الباحثين التونسيين الذين بدؤوا يهتمّون
بهذه القضايا الفكريّة رغم تعصّب بعض الجامعيين الذين عوض أن يشجّعوا هذا التوجّه يقومون
بمعاقبة هؤلاء الباحثين بدعوى أنّ عليهم أن يبحثوا في أمّهات الكتب. مع العلم أنّ في
مصر والجزائر وألمانيا وفرنسا وأمريكا وغيرها هناك اهتمام خاص ببعض المفكّرين التونسيين
الفلاسفة والمتفلسفين.
في مقالك ضمن الكتاب عبرت أن ابن خلدون في
محاولته كتابة التاريخ كان فيلسوفا وأنه لم يكن ممكنا له تأسيس علم العمران البشري
دون هذا البعد الفلسفي. ألا ترى أن مثل هذا الرأي قد يكون موضع جدل موسع؟
نعم كان ابن خلدون فيلسوفا من نوع خاص.
وقد بيّنت ذلك بوضوح في كتابي قراءات في فلسفة التنوّع كما برهنت على هذه النظريّة
في أطروحتي لدكتوراه الدولة التي ناقشتها بجامعة السوربون بباريس سنة 1986. وهي نظريّة
قابلة للنقاش طبعا، ولكنّ الدراسات المعاصرة غربا وشرقا أكّدت هذا التوجّه مثل أعمال
محسن مهدي وأطروحة عبد السلام الشدادي وقبلهما كتابات الفيلسوف الإنجليزي جلنار.
لو بقينا مع ابن خلدون كيف ترى حضور كتابه
المقدمة في الأبحاث الفلسفية العربية، هل أنت راض عن هذا الحضور؟
هناك طبعا حضور مميّز للدراسات الخلدونيّة
في العالم العربي والعالم الغربي. وابن خلدون أصبح الآن مرجعا علميا كونيّا يعود إليه
المفكّرون والباحثون والخبراء في كلّ أنحاء العالم تقريبا.
هل مشروع الفلسفة في تونس قابل للتطبيق
في كل بلد عربي؟
طبعا. تمّ تطبيقه بمصر وهناك الآن دراسات
عن الفلسفة في بعض البلدان العربيّة مثل المغرب والجزائر ولبنان وسوريا والعراق والكويت.
كيف ترى واقع الفلسفة اليوم في تونس؟ بعبارة
أخرى هل توجد آذان صاغية لما يقوله فلاسفة تونس السابقون والمعاصرون؟
ليس من السهل تقييم الوضع الحالي للتفلسف
في تونس. يجب تكوين فرق بحث علميّة لتشخيص الوضع. ولكننا نستطيع القول إنّ تدريس الفلسفة
هو المهيمن على الشأن الفلسفي وهذا مهمّ طبعا ولكنّه غير كاف. والبحث الجامعي في ميدان
الفلسفة ما زال ضعيفا. ومع ذلك هناك محاولات للخروج بالفلسفة من برجها التدريسي لتهتمّ
بشؤون الناس. ويندرج إحداث معهد تونس للفلسفة في هذه المقاربة التي تريد أن يكون التفكير
المدعّم ببرهان وأعني التفلسف معمّما قدر الإمكان بين الطبقة المثقّفة من الشعب. ولكنّ
هذا المعهد لا يرى تشجيعا حتّى من قبل وزارة الشؤون الثقافيّة وهو من مؤسّساتها.
وقناعتي أنّ الفلسفة (والفكر عامة) لا تجد
من أصحاب القرار في تونس وفي أكثر البلدان العربيّة أذنا صاغية. وعلينا النضال اليومي
لنفتكّ بعض الدعم. مع العلم أنّنا نقوم بمجهودات كبيرة لا تحصى في هذا المعهد وبدون
مقابل خدمة للتنوير في وطننا. ولا بدّ هنا من ذكر الأساتذة الأفاضل الذين أسسوا المعهد
وأعطوا الكثير من وقتهم لإنجاح أعماله وهم محمد محجوب وزينب بن سعيد الشارني وحميد
بن عزيزة ورشيدة التريكي ومحمد علي الحلواني.
يصدر كتاب الفلسفة في تونس ضمن سلسلة تديرها
كيف تقدمها للقارئ العربي؟
هي سلسلة نتيجة شراكة بين المعهد ودار النشر
"كلمة" بتونس أقمناها لنشر الأبحاث العلميّة والندوات التي يقوم بها المعهد.