انشغلت الخرطوم الأسبوع الماضي أو أُشغلت بمحاكمة الرئيس السابق عمر البشير في تهمة تدبير الانقلاب العسكري الذي جاء به إلى السلطة قبل نحو أكثر من 30 عاما، وفي جلسة إجرائية أحضر إليها البشير و27 متهما آخرون، تلا القاضي الاتهام الموجه لهم، الذي تصل عقوبته إلى الإعدام إذا ما أثبتت الإدانة، ورفع القاضي الجلسة لعدم توفر ظروف ملائمة لاستقبال 199 محامي دفاع عن البشير، وحدد 11 أغسطس المقبل موعدا لجلسة جديدة.
وقد جاء توقيت المحاكمة المحاطة بهالة إعلامية رسمية مقصودا، في خضم أعراض كورونا السياسية التي أصابت حكومة عبد الله حمدوك فاستقال 7 من وزرائها، وهو يحاول نفي ما يُثار عن "شلة المزرعة" التي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، والمتهمة بالوقوف وراء قراراته المضطربة، واضطر حمدوك بعد نحو 6 أشهر فقط إلى تعديل موازنة الدولة للعام ٢٠٢٠ مما سينتج عنه زيادة مرتقبة في أسعار الوقود، وتعويم الجنيه السوداني ليرتفع التضخم من 114% مرة أخرى إلى نحو ٢٠٠%.
الميزانية المعدلة توقعت حصول السودان على 1.8 مليار دولار من المانحين؛ لكن وزير المالية المستقيل أكد بعد استقالته عدم علمه بأوجه صرف الأموال التي قدمت للسودان في الفترة الماضية، وعدم استلام وزارته لهذه الأموال، وهذا لعمري يؤثر على الدول المانحة، وهي حساسة جدا تجاه الفساد وعدم الشفافية التي اتهم بها الوزير المستقيل حكومة حمدوك، ويصبح أمل انتظار الحصول على 1.8 مليار دولار سرابا.
ومن تناقضات السياسة في السودان، أنه في ذات الوقت الذي يحاكم فيه البشير بتهمة قيادة انقلاب عسكري، تتصاعد دعوات من أطراف في التحالف الحاكم (تحالف قوى الحرية والتغيير) خاصة حزب البعث العربي، بمحاكمة البشير ونظامه على محاكمته لقادة انقلاب عسكري فاشل في أثناء حكمه في 23 أبريل من عام 1990 وحكمت محكمة عسكرية بالإعدام على 26 من الضباط المشاركين فيه وهم من البعثيين.
والمدهش حقا، اعتراف الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الحالي في حوار العام الماضي مع قناة الجزيرة، بأنه شارك في ذلك الانقلاب، ونجا بأعجوبة من المحاكمة، ثم يأتي اليوم ليكون هو على رأس سلطة تحاكم آخرين بتهمة تدبير انقلاب عسكري؟!
ولعل محاكمة البشير اليوم تعتبر فريدة من نوعها في العالم العربي، حيث لم يمثل أي منفذ انقلاب ناجح في التاريخ الحديث أمام القضاء.
والمعلن في هذه المحاكمة، أن البشير سيحاكم بتهمة الانقلاب على حكومة الصادق المهدي المنتخبة عام 1989، لكن انقلابا آخر على حكومة الصادق المهدي سبق انقلاب البشير بأشهر قليلة من خلال ما عرف بمذكرة قدمها قائد الجيش حينها، وعدد من الضباط طالبت بتفكيك الائتلاف الحكومي برئاسة المهدي، والاستعاضة عنه بما سمي بحكومة القصر ورئيسها المهدي نفسه، لكنها مثلت إرادة مجموعة من الضباط، وهو ما عُدّ انقلابا كامل الدسم على قواعد اللعبة الديمقراطية، وفرض حكومة بأمر الجيش، بيد أنه لم تجر أي محاكمة لقادة الجيش ولم يجرم فعلهم المجافي للديمقراطية.
قبل شهرين من سقوط نظام الرئيس البشير في نيسان/أبريل 2019، قدمت في البرلمان مبادرة تشريعية لسن قانون وطني يمنع ملاحقة رؤساء الجمهورية بعد تنحيهم عن السلطة، سواء على المستوى المحلي أو الخارجي، وذلك بحجة الحفاظ على هيبتهم ورمزيتهم القيادية، باعتبار أن توفير الحماية للرؤساء السابقين في القوانين الوطنية، يشجع على عدم التمسك بالسلطة ويضمن عملية الانتقال السلمي للحكم في البلاد.
وفي السودان، حدثت (4) انقلابات عسكرية ناجحة وعدد آخر وافر من المحاولات الفاشلة منذ الاستقلال في 1956م، وقد تمت محاكمات للرئيس إبراهيم عبود انقلاب 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1958 ولمدبري انقلاب 25 أيار/ مايو 1969 بقيادة جعفر نميري، لكنه لم يحاكم حضوريا، لأنه كان لاجئا في مصر، وعندما عاد إلى البلاد كانت التهمة قد أسقطت عنه بالتقادم.
الحقيقة أنه منذ أول انقلاب في تشرين الثاني/نوفمبر 1958، أصبحت مشاركة العسكر في السياسة السودانية سمة دائمة للعلاقة بين الجيش والعمل السياسي، ثم تكررت الانقلابات وولوغ العسكر في السياسة، حتى غدا ذلك جزءا لا يتجزأ من العملية السياسية في السودان.
ومن أسباب تورط الجيش في السياسة، محاولة حماية مصالح الجيش المؤسسية، إن تهددها خطر تقليص الميزانية أو الإهمال أو وجود مليشيات منافسة، أو التدخل السياسي في شؤونه المهنية.
ومعلوم أنه عندما تزداد حالة الصراع والاستقطاب السياسي تتزايد فرص الانقلابات، لكن الحقيقة المرة أن تزايد الاستقطاب والصراع السياسي يسهم في انهيار الأنظمة سواء المدنية أو العسكرية، وفي معظم الانقلابات في السودان إن لم يكن كلها، نجد أن للسياسيين المدنيين نصيب الأسد فيها، فلم يعلم أن العسكر قد تحركوا يوما منفردين وبدون تحريض من السياسيين الذين يتباكون نفاقا على الديمقراطية، فهم الأوفر حظا في عدم احتمال الآخر إن لم يكن حزبهم على رأس السلطة.
وتكاد تكون الانقلابات العسكرية عادة أفريقية؛ فمنذ حصول دول أفريقيا على استقلالها حتى اليوم، هناك أكثر من 187 انقلابا عسكريا، وفي عام 1999 اعتمد الزعماء الأفارقة موقفا موحدا رافضا للانقلابات العسكرية، وبذلك تعهد أكثر من 40 رئيسا أفريقيا في القمة التي استضافتها الجزائر، بإنزال أقصى العقوبات على الانقلابيين، حتى تضع حدا لمطامع العسكر في السلطة.
ومن المفارقات في تلك القمة، أن أكثر من ثلث الرؤساء الذين اتخذوا هذا القرار التاريخي، وصلوا إلى السلطة بفضل انقلابات عسكرية، قامت بها جيوش نظامية أو حركات تمرد مسلحة.
لكن الاتحاد الأفريقي خضع لضغوط خارجية إقليمية، فغيّر موقفه من الانقلاب الذي قاده الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي على الرئيس السابق المنتخب محمد مرسي، فتراجع عن تعليق عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي ووقف نشاطها فيه، وهو ما وصفه البعض بالسماح للانقلابات العسكرية في أفريقيا إذا ما غُلّفت بشكل ديكوري بانتخابات الفوز فيها نتيجته 99.9%.
(الشرق القطرية)