من
بين الأقوال الفلسفية الكثيرة التي تطرقت إلى السياسة، قد تكون قولة باروخ سبينوزا
"كل شيء يرتبط جذريا بالسياسة" هي المدخل الأفضل لتدبر المشهد التونسي في
كل مجالاته. فحتى لو افترضنا أن السياسة ليست هي المحدد الأساسي للواقع بحكم
خضوعها هي ذاتها لمحددات اقتصادية، فإنها تظل الواجهة التي يفهم من خلالها عموم
المواطنين واقعهم فيعلقون عليها آمالهم حينا، ويحملونها مسؤولية خيباتهم أحيانا
أخرى.
ولا
شك في أن المراقب للشأن التونسي سيلاحظ
هشاشة الحقل السياسي منذ رحيل المخلوع. ولا
تعني تلك الهشاشة أننا قد انتقلنا من حياة سياسية صحية
أو طبيعية إلى وضعية هشة، بل تعني فقط أننا قد خرجنا من مرحلة "قتل السياسة" (أو حصرها في ملحقات وظيفية وصورية) إلى مرحلة التأسيس المشترك لها، مع ما يعنيه
ذلك من مشاكل يرتبط بعضها بالسياقات المحايثة، ويجد البعض الآخر جذره في مستوى
التمثلاث أو أشكال الوعي السياسي المترسبة (عند جميع الفرقاء وإن بدرجات متفاوتة)
من العهد الاستبدادي.
حكومة تسويات تاريخية أم حكومة ضرورة؟
بصرف
النظر عن تقييمنا لمرحلة "التوافق" بين نداء تونس وحركة النهضة، وبصرف
النظر عن الوعود/ الأوزان الانتخابية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية التونسية
الأخيرة سنة 2019، وكذلك بصرف النظر عن التوازنات السياسية الجديدة التي أعقبت وصول
السيد قيس سعيد لرئاسة الجمهورية دون سند حزبي، فإن حكومة السيد إلياس الفخفاخ لم
يكن لها أن ترى النور لو نجح الحزب الحاصل على أكبر المقاعد (حركة النهضة) في
تمرير مرشحه لرئاسة الحكومة، السيد الحبيب الجملي.
وقد
كان ذلك الفشل مؤذنا بتشكل اصطفافات هلامية لا تعكس منطق توازي المسارات بين
البرلمان والحكومة، ولكنها تعبّر عنه جزئيا. لقد كان ذلك يعني أن اختيار السيد
إلياس الفخفاخ لرئاسة الحكومة (باعتباره الشخصية الأقدر من بين الأسماء المقترحة
على رئيس الجمهورية) لم يكن خطوة نحو الاستقرار السياسي بقدر ما كان تعميقا
للخلافات بين الفاعلين الجماعيين، بمن فيهم أولئك الذين شكّلوا (تحت قهر الضرورة
والحسابات السياسية الظرفية) الحزام الحزبي للحكومة.
لقد
جاء السيد إلياس الفخفاخ إلى الحكومة بترشيح من حزبي التيار الديمقراطي وتحيا تونس،
وهو معطى مهم يجب الانتباه إليه عند تحليل الواقع السياسي التونسي الذي لا يمكن
رده إلى ثنائية مانوية، كالثوريين في مقابل المنظومة القديمة. وقد استطاع بدعم
صريح من رئيس الجمهورية أن يشكل فريقه الحكومي من أحزاب لا يمكن القول باشتراكها
في قاعدة أيديولوجية واحدة أو دفاعها عن مشروع مجتمعي مشترك، كما لا يمكن تجاهل ما
بينها من صراعات تتجاوز الشأن التونسي المحلي.
وقد
عرفت العلاقة بين الأحزاب المشكلة للحكومة توترا كبيرا وجد مظهره الأقصى في تصويت
ممثل الكتلة الديمقراطية (وهي كتلة برلمانية تتشكل من حزبي التيار الديمقراطي ذي
التوجه اليساري الاجتماعي، وحركة الشعب ذات التوجه القومي الناصري) على تمرير
اللائحة التي تقدمت بها
عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر (وريث التجمع الحزب
الحاكم زمن المخلوع) إلى مكتب مجلس النواب لتصنيف حركة النهضة حركة إخوانية
إرهابية.
فشل
حكومة أم فشل الانتقال الديمقراطي السياسي؟
مهما
كان موقفنا من الأنساق الحجاجية المعتمدة من لدن النهضة وحلفائها/ خصومها في الحكومة
لتبرير التوتر الذي بلغته العلاقة بينهم، فإن الثابت الوحيد هو أنّ تلك العلاقة قد
بلغت مأزقا يستحيل معه استمرار الحكومة في القيام بمهامها بمنطق التضامن
والمسؤولية المشتركة. فقد بدا واضحا أن تركيبة الحكومة لا تعكس حقيقة العلاقة بين
الأحزاب والكتل البرلمانية. وقد ظهر نوع من التحالف بين رئاسة الجمهورية والتيار
الديمقراطي وحركة الشعب من جهة أولى (بدعم واضح من الاتحاد العام التونسي للشغل)، وبين
حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة من جهة ثانية.
وكان
واضحا أن هذا الواقع السياسي "الهجين" يؤذن في الحد الأدنى باستمرار ضعف
الحكومة وعجزها عن تحقيق الانتقال الاقتصادي الذي وعد به رئيسها عند التكليف، وكان
أيضا مؤذنا في الحد الأقصى بسقوط الحكومة، إما باستقالة رئيسها (وهو ما كان) أو
بحجب الثقة عنه أمام البرلمان (وهو ما سعت إليه حركة النهضة).
ولكنّ
استقالة
رئيس الحكومة لن تكون سببا للتخفيف من الاحتقان السياسي في تونس. فالأزمة
السياسية تتجاوز الأشخاص إلى بنية الحقل السياسي ذاته، بل تتجاوز الاثنين إلى أزمة
مجتمعية خانقة (بنى موضوعية وذهنية مترسبة من العهد الاستبدادي)، وهو ما يجعلنا
أمام واقع لن نجد لتفسيره أفضل من القولة الشهيرة لأنطونيو غرامشي: "العالم
القديم يحتضر، والجديد يكافح من أجل أن يولد".
فالقديم
(الأيديولوجيات، أنماط الوعي السياسي، الجهوية، الزبونية، الاصطفاف على أسس هووية،
منطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، الزعاماتية، الاندراج في محاور إقليمية،
إدارة الصراع على أساس وجودي وبمفردات الحرب أو بروحها.. الخ.. الخ) يهيمن على
الفضاء الذي يُفترض فيه إنتاج الأفكار والمؤسسات الضرورية لإدارة "الجمهورية
الثانية"، ولكنّ القديم لا يتحرك بمفرده، بل يعارضه "جديد" يكافح
من أجل تجاوز العناصر اللاوظيفية كلها، ولكنه يعجز عن تحقيق ذلك إلى حد هذه
اللحظة.
إننا
أمام واقع معقّد فشل رئيس الحكومة المستقيل في قراءته عندما افترض استواء الانتقال
السياسي على سوقه، وإمكانية الاشتغال على الانتقال الاقتصادي انطلاقا من ملف
محاربة الفساد. فكان أن شكّل حكومة "هجينة" لا يمكن تعريفها بأي محدد
موضوعي: فلا هي حكومة ثورية ولا حكومة إصلاحية (بحكم وجود بعض مكونات المنظومة
القديمة فيها)، ولا هي تعبير عن تشكل "كتلة تاريخية" (بحكم استمرار
الصراعات الهوياتية بين النهضة وأغلب الكتل العلمانية المشاركة في الحكومة)، ولا
هي حكومة الرئيس (لأنها تعكس توازنات المشهد البرلماني أكثر مما تعكس اندراجا في
تصور الرئيس لدور الأحزاب ومنظومة الحكم كلها).
هل
يوجد مخرج قريب من المأزق الحالي؟
مباشرة
بعد استقالة الفخفاخ، قدمت بعض الكتل البرلمانية عريضة لسحب الثقة من رئيس
البرلمان (جمّعت 73 إمضاءً دون الحاجة لأصوات كتلة وريثة الفاشية عبير موسى)، وهو
ما يعني استمرار الأزمة السياسية في المرحلة القادمة. ولعل ما سيزيد من تعميق تلك
الأزمة والدفع بها نحو ممكنات كارثية؛ هي إمكانية الفشل في التوافق على رئيس
الحكومة الذي سيعتبره رئيس الجمهورية
الشخصية "الأقدر" على تشكيل
الحكومة، من بين الأسماء التي ستقدمها له الأحزاب في الأيام القليلة القادمة.
وقد
لا نكون في حاجة إلى التذكير بأن إعادة الانتخابات (بصرف النظر عن كلفتها المادية،
وعن ضررها المؤكد في التصنيفات الدولية لمناخ الاستثمار في تونس) لن تفعل شيئا غير
إعادة المشهد الحزبي ذاته، بحكم الفشل في تعديل القانون الانتخابي أو حتى القانون
المنظم للسلطات. وهو ما يعني استمرار الأزمة السياسية التي هي مظهر لأزمة فكرية
وقيمية أعمق، والتي يحاول "محور الشر" الدفع بها نحو السيناريو المصري،
أو حتى إلى الاحتراب الأهلي إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وقد
يكون من نافلة القول تذكير الأحزاب المحسوبة على الثورة بأن خراج خلافاتهم كله يصب
في خزائن منظومة الفساد ومن يكفلها إقليميا ودوليا، كما قد يكون من العبث تنبيه
تلك الأحزاب إلى أنّ البديل الأوحد لتعاونهم هو تحولهم جميعا (بصرف النظر عن
إراداتهم ومقاصدهم) إلى طوابير خامسة في خدمة أجندات أعداء الثورة... ولو بعد حين.
twitter.com/adel_arabi21