بقدر ما أثار رجل الأعمال طلال أبو غزالة من إعجاب لدى البعض ممن تابعوه منذ العام الماضي، فما لبث أن أثار الكثير من الجدل بجانب الهجاء، وذلك حين بدا كمن يخلط بين التحليل والتنجيم فيما خصّ التطورات المستقبلية في المشهد العربي والدولي والإقليمي.
وحين اصطادته مذيعة في "BBC"، متلبسا بالتناقض حين أنكر كلاما سبق أن قاله في مناسبة سابقة؛ انتشر المقطع في وسائل التواصل؛ انتشار النار في الهشيم.
أن يكون الرجل عصاميا، وجنى ثروته وشركاته من إبداعاته، لا يعني أن بوسعه أن يفتي في كل الشؤون السياسية والعسكرية والتكنولوجية والطبية وسواها، فلا أحد يملك القدرة على ذلك بحال.
مشكلة الرجل في اعتقادي هي في الأضواء التي تعرّض لها على نحو استثنائي منذ مطلع العام الماضي، والتي جعلته نجما في الفضائيات قبل أن تخصص له قناة "روسيا اليوم" برنامجا أسبوعيا يتحدث من خلاله في كل الشؤون العربية والدولية بكل تفاصيلها.
والأضواء قد تقنع الشخص بأنه "خارق" في بعض الأحيان، ولا يمكن أن يُسأل في أي شأن، إلا وتكون لديه إجابة واضحة عليه.
ليست لي مشكلة شخصية مع الرجل، فله كل الاحترام، ومن حقه أن يتحدث كما يشاء. بل إنني أرفض هجمات البعض المبتذلة عليه، فهو يتحدث، وبوسع أي أحد أن يستمع أو لا يستمع، يؤيد أو يرفض، والحكم في النهاية لمسار الأحداث.
ومع أن الرجل لم يترك شأنا حساسا، إلا وتحدث فيه، إلا أن جزئية معينة هي التي حظيت بالكثير من الجدل، وهي تلك التي خلط فيها بين التحليل السياسي الذي يحتاج إلى فهم طويل للسياسة وتركيبها وتعقيدها، وبين التنجيم.
حدث ذلك حين تنبأ بحرب عسكرية بين الصين والولايات المتحدة في شهر "أكتوبر" القادم، أي بعد 5 شهور لا أكثر. وحين بدأ الموعد في الاقتراب، عاد يتحدث عن حرب لا تسيل فيها دماء!!
لم أشأ أن أخصص هذه السطور عن ظاهرة طلال أبو غزالة، إن جاز التعبير، وإنما عن أسئلة المستقبل الحساسة، والتي لم تكن يوما بهذه الكثرة والضخامة كما هي هذه الأيام، لا سيما أنها تتجاوز الشأن السياسي ومتعلقاته الإقليمية والدولية، إلى مختلف الشؤون التكنولوجية والعسكرية والطبية والأخلاقية والدينية، بل حتى علاقة الإنسان مع ما تبقى من أجزاء الكون الذي لا يجزم أحد بحقيقة ما فيه من كائنات.
لكن ذلك كله لا يهمّش البعد الأهم الذي كان حاضرا على الدوام في شؤون البشر (نتحدث الآن عن كوكب الأرض)؛ ممثلا في صراعات السياسة التي تصنع موازين القوى الدولية الجديدة.
نستحضر هنا مطلع سورة "الروم" في القرآن الكريم، وفيه كان الله عز وجل يضع نبيه عليه الصلاة والسلام في صورة المشهد الدولي القائم حينها، بينما يبشّره بما هو قادم، ولكن في سياق منطقي، فضلا عن كونه نبأً من عليم خبير.
أخبره بحدث سابق (غلبت الروم)، وبحدث قادم خلال سنين (وهم من بعد غلبهم سيغلبون)، وفي المجمل كان يخبره أن الإمبراطوريتين الأكبر في الكون حينها، وهما اللتان خاضتا حربا عالمية سابقة، ستخوضان حربا أخرى في أقل من 10 سنين، والنتيجة أنهما ستصبحان في حالة ضعف وانهيار، ولذلك لم يتردد عليه الصلاة والسلام في تحدي الإمبراطورية المنتصرة في "معركة مؤتة"، الأمر الذي بعث رسالة لكل القوى في الجزيرة العربية وخارجها، بشأن طبيعة القوة الصاعدة. ولو كان "الروم" في وضع قوي، لما مرّروا إهانة من هذا النوع.
اليوم يمكن القول إن "أبو غزالة" لم يأت بجديد حين تحدث عن الصراع الأمريكي الصيني، فهو ما نتحدث عنه، مثل أكثر محللي العالم منذ سنوات، ومعه الصراع مع روسيا وصعودها العسكري، لا سيما أن منحنى التراجع الأمريكي (يقابله الصعود الصيني) لم يبدأ قبل عام أو أعوام، وإنما منذ وضوح النزيف الأمريكي في العراق وأفغانستان، منتصف العقد الماضي، بعد مرحلة شبه أحادية دولية عابرة؛ بدت كأنها مخالفة للسنّة الربانية التاريخية لم تعمّر أكثر من عقد ونصف قبل ذلك (السنّة المقصودة ترجمتها آية "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين").
ونقول شبه أحادية لأن أمريكا لم تكن تحكم العالم، وإن كانت الأقوى، بدليل عجزها عن تمرير قرار غزو العراق في مجلس الأمن.
هذا الصراع (الصيني- الأمريكي) هو الذي سيرسم صورة المشهد الدولي الراهن والقائم، لأنه صراع تختلط فيه السياسة والقوة العسكرية والقوة التكنولوجية والفضائية، وفي مختلف المجالات، ومن الصعب الجزم بتفاصيله، وإن كان الصعود الصيني فيه مؤكدا، تماما كما هو حال التراجع الأمريكي.
في هذا النوع من الصراعات الدولية الكبرى؛ تشتغل كل المجالات والأدوات؛ في ميادين السلاح والسياسة والتكنولوجيا بكل أشكالها والطب والفضاء، ومن خلال ذلك تنشأ تغيرات مثيرة على مختلف الأصعدة.
ما هي تفاصيل تلك التغيرات؟ من الصعب الإجابة، وهنا يبدأ الفرق بين التحليل والتنجيم. التحليل الذي يقارب الإجابة بناءً على معطيات متوفرة، وإن كانت محدودة قياسا بالمتغيرات، أو يتحدث عن تطورات في مجالات تتطوّر أصلا، وبين التنجيم الذي لا يستند إلى شيء واقعي خلا مغامرات التنبؤ التي يتورط فيها كثيرون (مثل تحديد تاريخ اندلاع الحرب العالمية، أو ما يشبهها من حروب كبرى).
المصيبة أن محسوبين على التحليل السياسي لا زالوا يتورّطون تباعا في هذه اللعبة من باب الإثارة، وكسب جماهير البسطاء، ولا يوقفهم شيء رغم أن مواقع التواصل تحتفظ بكل ما يقولون، كحال ذلك الذي توقع عددا من الحروب الكبرى خلال أعوام قليلة، ولم يحدث منها شيء، لكنه يواصل إطلاق التنبؤات، كأن مستمعيه بلا ذاكرة!!