أهم ما يؤكده كتاب مستشار دونالد ترامب السابق للأمن القومي، جون بولتون، هو مدى ازدراء الرئيس الأمريكي بالعرب، ربّما باستثناء متولّي العهد السعودي محمّد بن سلمان لما يمثله هذا الأخير من مصلحة اقتصادية ولما تربطه بصهر ترامب الصهيوني جاريد كوشنير من صداقة وتواطؤ. فإن هاجس ترامب شبه الوحيد في الشرق الأوسط، كما يتجلّى من خلال شهادة بولتون، هو إيران، وذلك بالطبع ناجم عن تبنّيه الكامل لوجهة نظر جماعة الضغط الصهيونية في إدارته، وثيقة الارتباط برئيس وزراء دولة إسرائيل بنيامين نتانياهو. أما معظم حلفاء أمريكا العرب فيكاد لا يكون لهم ذكر، بمن فيهم رئيس أكبر الدول العربية، الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي.
وإذا كان لسوريا حضور هام في مذكرات بولتون، فالسبب لا يعود لاهتمام ترامب بسياستها الداخلية، بل وحصراً لارتباط الملف السوري بالملف الإيراني. هذا ما يفصح بولتون عنه منذ البداية عند تناوله لموضوع «استخدام القوة» من قِبَل الولايات المتحدة عقاباً على استخدام نظام آل الأسد للسلاح الكيماوي، فيقول: «كانت القوة العسكرية مبرّرة لردع الأسد وغيره العديدين عن استخدام الأسلحة الكيماوية (أو النووية أو البيولوجية) في المستقبل. من وجهة نظرنا، كانت سوريا أمراً استراتيجياً جانبياً، ومن يحكم فيها يجب ألا يلهينا عن إيران، الخطر الحقيقي.» ثم يروي بولتون محاولة ترامب إقناع حلفائه العرب (الدول الخليجية الثرية ومصر) بنشر قواتهم في سوريا وتمويل بقاء القوات الأمريكية على أرضها. بل أراد ترامب، وفق شهادة بولتون، أن يتحمّل الخليجيون كلفة الانتشار الأمريكي زائد الربع، ثم رفَع طموحه إلى نصف الكلفة كربح صاف لواشنطن. ويعلّق بولتون قائلاً إنه كان واثقاً من أن ترامب سوف يسحب القوات الأمريكية من سوريا إذا لم يحصل على مبغاه من الدول العربية، وهذا ما جرى.
هذا ومن الأمور التي يؤكدها بولتون في شهادته موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من التواجد الإيراني في سوريا. فيروي أن بوتين طلب منه أن يبلّغ ترامب «أن الروس لا يحتاجون لوجود الإيرانيين في سوريا وأن لا منفعة لروسيا في ذلك». ويضيف بولتون نقلاً عن بوتين:
«إن لإيران أجندتها الخاصة بها، مرتبطة بأهدافها في لبنان ومع الشيعة، وهي لا تمت بصلة لأهداف روسيا وتخلق مشاكل للروس وللأسد. أما هدف روسيا، قال بوتين، فهو تدعيم الدولة السورية للحؤول دون فوضى على غرار أفغانستان، بينما لإيران أهداف أوسع. وإذ تريد روسيا خروج إيران من سوريا، لم يعتقد بوتين أن بإمكانه تأمين انسحاب إيراني كامل ولم يبغِ أن تقدّم روسيا وعوداً لا قدرة لها على الإيفاء بها.»
ثم أضاف بوتين أنه يخشى أن تنتهز المعارضة السورية وقوات داعش فرصة خروج القوات الإيرانية كي تشن هجوماً على النظام بما يفرض على روسيا أن تحلّ مكان القوات الإيرانية في القتال، وهي لا تنوي ذلك. لذا كان الرئيس الروسي يطالب باتفاق واضح مع الولايات المتحدة على حل سلمي للوضع السوري والتزام أمريكي بمنع دخول قوات معارضة إلى الأراضي السورية، شرطاً لأي تحرّك روسي إزاء إخراج إيران من ساحة المعركة. ويضيف بولتون أنه أجاب بوتين: «إن أولوياتنا هي تدمير داعش وإخراج كافة القوات الإيرانية. لسنا مشاركين في الحرب الأهلية السورية، وأولويتنا هي إيران.»
ثم يروي بولتون لاحقاً ما نقله له نتنياهو عن لقائه ببوتين، وبالأخص ما دار بينهما من حديث حول سوريا. «قال بوتين لنتنياهو إنه ينبغي على إيران أن تجلو عن سوريا، مؤكداً أنه يشاطر غايتنا، لكن الأسد يواجه مشاكل تحول دون أن يطلب بوتين منه الضغط على الإيرانيين. فالأسد يتّكل على القوات الإيرانية للتقدّم في منطقة إدلب ضد المعارضة السورية وشتى الجماعات الإرهابية.» كما يروي بولتون كيف ضاق خُلق ترامب لاحقاً إزاء إخفاقه في الحصول على مبغاه من حلفائه العرب ومن روسيا، فقال ترامب: «متى سوف نخرج من سوريا؟ كل ما فعلناه هناك هو إنقاذ الأسد.»
ويتضّح من رواية بولتون كيف أن الهاجس الانتخابي غدا هو هاجس ترامب الرئيسي كلما اقترب أجل الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، التي يستميت للفوز بها ضماناً لبقائه في كرسي الرئاسة لولاية ثانية. وقد وصل به الهاجس إلى حدّ استعداده للقاء وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في مدينة بياريتز الفرنسية، خلال قمة مجموعة الدول السبع التي انعقدت في الصيف الماضي، متجاهلاً رأي صديقه نتنياهو وأهم أعضاء إدارته، لاسيما وزير خارجيته مايك بومبيو ومعه بالطبع بولتون نفسه الذي أخذ يفكر بالاستقالة منذ ذلك الحين. ويروي بولتون أن كوشنر، صهر ترامب، ومعه وزير الخزانة ستيفن منوشين، أثنيا على رغبة الرئيس في تحقيق ذلك اللقاء وما توخّاه منه، ألا وهو «فوتو أوب» أي فرصة التقاط صورة، والمعروف عن ترامب ولعه بمثل تلك الفرص التي يرى فيها وسائط انتخابية أساسية، على غرار لقاءاته المشهدية والعبثية مع طاغية كوريا الشمالية، أو رفعه للتوراة مؤخراً أمام الكنيسة الأقرب إلى البيت الأبيض في واشنطن.
وكانت حجة كوشنر ومنوشين أن لا خسارة في لقاء ترامب لظريف، وهما أيضاً يغلّبان، على ما يبدو، مصلحة فوز ترامب بولاية ثانية (وهما إلى جواره) على إزعاج نتنياهو ظرفياً بلا نتائج ملموسة. أما الطريف في الأمر فهو ما ينقله بولتون عن رد فعل بومبيو عندما علم بموقف الرجلين، وقد قال لبولتون (على الهاتف من واشنطن حيث بقي بومبيو): «إذاً لدينا منوشين وجاريد، اثنان من الديمقراطيين، يديران سياستنا الخارجية». والحقيقة أن في هذا الكلام إشارة مبطنة إلى كون الرجلين يهوديين (إذ إن أغلب اليهود الأمريكيين يؤيدون الحزب الديمقراطي)، وهي ليست مستغربة من قِبَل المسيحي الإنجيلي بومبيو، الذي يجمع بين المغالاة في تأييد الدولة الصهيونية وكره اليهود، على غرار سائر «الصهاينة المسيحيين» من الإنجيليين الأمريكيين الداعمين لدونالد ترامب.
(القدس العربي)