تُرى ما هو الأسوأ من مزحةٍ ثقيلة الظل وسمجة، «نكتة بايخة» كما نقول؟ لا أتصور سوى إجابة واحدة: هو حين تطول. حين يصر صاحبها أو مُطلقها على إعادتها، مجودا، مضيفا إلى بذاءتها في محاولة يائسة لتوسل الضحك من المحيطين، ثم لا يكتفي بذلك، إذ يلاحقهم في كل مكان، معيدا جمله القصيرة البذيئة الباهتة، فهو واثقٌ من نفسه لدرجةٍ تدهش الظرفاء حقا، وأصحاب الحجى من العاقلين المستمعين، وما يزيد الطين بلةً أنه بعضلاته وما يتوفر له من أسباب القوة قادرٌ، بكل أسف، على التمادي في تكرارها، حتى يحدث شيء عجيب، بل غرائبي في حقيقة الأمر، إذ بعد طول التكرار ذاك ينشأ وضع عبثي تماما، إذ تتغير نفسية الناس، يتحورون، يختلط عليهم الحسن والقبيح فيعتادون القبح والسماجة، تتبدل مفاهيمهم وتذوب ثوابتهم وتتآكل ذائقتهم، فيتغير مفهوم العادي ويتسع (أو يتحرك) حيز المعتاد والطبيعي لتدخله السماجة، وثقل الظل، وقد يصبحان ظرفا وفكاهة، تثخن جلود الناس ويتبلدون، ومع طول الأمد قد يتسرب العبث فيصبح خلفية كل شيء.
لقد كان مبارك هو تلك المزحة الثقيلة السمجة، التي طالت بطول مكثه، فرضها علينا نظامٌ يتأبد فيه الحاكم الخارج من رحمه، ومن عصبه العسكري ومؤسسة رئاسته كلية القدرة والنفوذ والسلطات والجبروت؛ ثقيل الظل معتم الذهن، جهو يفاخر بعناده، بيد أنه يحوز ذكاء يتيما أو غريزة لنقل: غريزة بقاءٍ بدائية نشيطة، وحسا أمنيا يقظا. جمد كل الصراعات واعتمد على البلادة تنخر كل شيء ببقائه وجهله، ببلادته، بميتاته العديدة، رسخ كل معاني العبث والغرابة، التي تستدعي أدب الواقعية السحرية كبطريرك غابرييل غارسيا ماركيز في خريفه، وقد خُتم فصله العبثي بجنازةٍ عسكرية، كُرم فيها طاغيةٌ قاتلٌ لص، مخالفةً لحكمٍ قضائي سجنه وحرمه من جنازةٍ عسكرية.
والحقيقة أن الحديث عن مبارك ذو شجون، ليس لأنني وأجيالا عدة كبرنا وخطونا خطواتنا الأولى في الحياة في ظله، بقدر ما يتعلق الأمر بما يجسده بشخصه وحكمه من طبيعة النظام وصيرورة التاريخ وجدليته في هذا البلد في هذه المنطقة من العالم.
برحيل مبارك وجنازته العبثية الخارقة للقانون، يثبت أنه وإن سقط ورحل، فإن النظام حيٌ لم يمت.
ومبارك أيضا يدركه الموت
على الرغم من ترديدي لنفسي بأنه يتعين عليّ التحلي بالحلم مذكرا نفسي بمزايا سعة الصدر في تناول الشأن العام، إلا أن عليَّ أن أعترف بكم كان يغيظني تعليقٌ يردده أعداء الثورة أو أي تغيير، والمثبطون وكسالى الفكر: أنا كنت أفضل أن يستمر مبارك؛ حينذاك لم أكن أجد ردا سوى: بالمناسبة، مبارك أيضا سيدركه الموت، ككل البشر حتميي الفناء، وقد استمرت الدنيا بعد أهمهم وأتفههم، مع تعديلاتٍ سياسية بالطبع، بل على الرغم من أرواحه العديدة التي تفوق تلك السبع المزعومة للقطط، فإنني لم أفقد يقيني ذاك بأنه ليس بمخلدٍ، ولم يداخلني أي شكٍ في أنه آجلا أو عاجلا سيموت.
وها قد حدث بالفعل، فلم تهو السماء بثقلها على الأرض، واستمرت الحياة وكأن شيئا لم يكن، مع فارق لم أمل من تكراره وتذوقه، هو كيف كانت ميتته الأخيرة (بعد الكثر السابقين) سخيفة وباهتة، تماما كجنازته، فقد سئمنا من طول الانتظار واللعب بأعصابنا، «مات» – «لا لم يمت.. مازال كالقرد»، ولعل الدرس الأهم من كل ذلك، هو أن فراعنة مصر وحكامها ومملوكيها السابقين والحاليين رحلوا، ومازالت الحياة تجري (لن أقول النيل لأن جريانه صار محل شك)، ومن ثم، فالتغيير ممكن ورحيل هذا العلج أو ذاك لن يوقف سريانها، بل مجيء الأفضل ممكن أيضا بالمناسبة.
ميراث مبارك
بالطبع لا أتحدث هنا عن ثروته العينية، التي يبدو أنها مخبأة في مغارة علي بابا منيعة الدخول مستحيلة الاستعادة، بحسب ما تحاول السلطة ترسيخه في نفوسنا، بل عن مصر. لقد كان مبارك فعليا، في رأيي، التجلي الأمثل لنظام يوليو: سلطوية مفرطة وإخصاء للمعارضة وتجفيف للحياة العامة وقمع. إضافته الأهم كانت ابتذال كل المعاني وتفريغ كل قيمة من أي قيمة، ولم يكن ذلك سوى انعكاسا لجهله وثلامة ذهنه، هو الذي أثبت كم السلطة التي يتمتع بها الرابض في سدة الحكم في مصر، ولو كان قردا. ولا يفوتنا في هذا السياق، أنه كرس الإهانة والتعذيب والتجاوزات في أقسام الشرطة، فرخصت الحياة البشرية. لا يعني ذلك أن نظام يوليو كان يحترمها، إلا أنها في زمن مبارك ازدادت رخصا.
مبارك والنظام
لعلني لا أبالغ قط حين أعود فأؤكد بأن سقوط مبارك الشخص، كان الدليل الأهم والأقوى على بقاء النظام، على العكس مما زعم العديدون من سقوط الاثنين معا، سواء في حينها أو في ما أعقب، كما أنني على قناعة تامة بأنه كان قد بدأ يعيد إنتاج نفسه، ليس فقط عقب سقوطه، بل منذ اللحظة التي قرر فيها المجلس العسكري أن يمضي منفردا، أن مباركا صار عبئا وثقلا ميتا يهدد بإغراق النظام، فآثر التخلص منه دافنا بذلك أيضا مشروع التوريث المزعج والمرفوض في آنٍ معا. غير أن تلك العلاقة بين الطرفين ليست سهلة ومباشرة أو أحادية، بل هي علاقة جدلية (من بين جدليات عديدة،) في واقع أغنى وأكثر تعقيدا، مما يعتقدون هم أنفسهم، وإن هذا الموقف بالتحديد يفضح ويفصح مختزلا مجلدات عن طبيعة السلطة في مصر؛ بداية فعلى مركزية وضع الرئيس فيها، وعلى الرغم من تضخم دائرة المنتفعين من أسرته والمحاسيب، إلا أن النظام لا يرتبط عضويا به، فهو لا يتألف من طائفة الرئيس وعشيرته، وإنا وإن كنا أول من يعترف، بل ويؤكد أن شخص الرئيس (أو الحاكم أيا كان لقبه) الجالس على الكرسي في مصر، يطبع ويصبغ البلد بطابعه (ومن هذا المنطلق وصفت زمن مبارك بالبلادة)، إلا أنه في تلك اللحظة الحاسمة، لحظة الفوران الثوري، قد أثبت النظام أنه أوسع من مبارك وأن السلطة والقوة التي يختزنها في أعصابه خاضعةٌ لمبارك ترفده ما اختارت الانصياع، إلا أن النظام نفسه قادر على المرونة والبقاء دونه. ولا يتعارض ذلك مع كون قادة المجلس العسكري في الوقت نفسه ماطلوا وتباطأوا في تقديمه للمحاكمة، ليس احتراما له فحسب، ولكن لأن ذهنهم السلطوي لا يستطيع تصور أن يحاكم ممثل السلطة، خاصة أنه في نهاية المطاف كان ضابطا قياديا، فضلا عن كونهم من حيث المبدأ متخوفين حريصين على ألا تصير هذه سابقة، الأمر الذي عبر عنه السيسي في أكثر من موضع، بأن ما حدث في يناير لن يتكرر.
في المجمل، فإن سنيه الثلاثين هي التي مهدت الأرض لما نراه الآن من عنف وابتذال لكرامة الناس ولأرواحها، ولتغول القبضة الأمنية وتوحشها، وعلى ضياعها؛ فقد تمخضت عن وحش مسعور هو الطبعة الأحدث والتجلي الأشرس لنظام يوليو، وللطبقة الحاكمة المستعدة للتضحية بكل شيء في سبيل البقاء.
ثمة من يتباكى عليه بدعاوى إنسانية، أو من منطلق أن زمنه أفضل؛ بالطبع فإن المشاعر والأحاسيس شأنٌ شخصي، إلا أن ردي على ذلك أن علاقتنا به لم تكن علاقة شخصية أو إنسانية، ومن ثم فلا أرى لهذا اللغو مكانا من الإعراب لدى تحليل حقبة رئيس وتبعاتها التي نعيشها حتى الآن. وعلى كلٍ فمبارك لم يمت بعد، فقد رحل بجسده وبقي أبشع ما فيه: نظامه أو «ال» نظام.
هذا هو مبارك الحي
لقد كانت هذه الرسالة من الجنازة العسكرية التي حضرها السيسي، بغض النظر عن تلك الإشاعات بأن أطرافا خليجية أصرت عليها؛ فعلى جميع الأحوال هذه بمنزلة إعلانٍ عن نجاح الثورة المضادة وهزيمة (لن أقول انكفاء) الثورات.
أجل برحيله الباهت وجنازته العبثية الخارقة للقانون، يثبت أنه وإن سقط ورحل، فإن النظام حيٌ لم يمت.
(القدس العربي)