ستظل الحكومة الانتقالية في السودان برئاسة عبد الله حمدوك تحرث في البحر، وهي تظن أنها قادرة على الوصول إلى اتفاقات سلام مع الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. تاريخ تفاوض الحكومات المركزية منذ نحو نصف قرن من الزمان، يشير إلى أن إرساء سلام حقيقي في السودان سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فإن كانت الحركة الشعبية بزعامة الراحل جون قرنق لم يهدأ لها بال إلا بعد أن تقاسمت كراسي السلطة مع نظام عمر البشير الذي أطيح به في نيسان/أبريل الماضي، بل ذهبت لاحقا بكامل جنوب السودان الذي انفصل رسميا في تموز/يوليو 2011 كنتيجة لاتفاقية السلام مع الحركة الشعبية التي تضمنت حق تقرير المصير.
المشكلة أن الحركة الشعبية لم تكتف بالاستحواذ على جنوب البلاد فحسب، بل استنسخت حركة شعبية أخرى سمية الحركة الشعبية قطاع الشمال التي انشطرت فيما بعد إلى حركتين؛ الأولى تسمى جناح عبد العزيز الحلو وتتمركز في منطقة جبال النوبة جنوب ولاية كردفان، والثانية جناح مالك عقار وتتمركز في جنوب ولاية النيل الأزرق. واليوم يتوزع جهد حكومة حمدوك التفاوضي بين الجناحين الغريمين، فإن حمل عليها جناح الحلو تلهث، وإن حمل عليها جناح عقار تلهث كذلك.
لقد تشكّل قطاع الشمال في الحركة الشعبية بعد انفصال جنوب البلاد، وكان ذلك إشارة إلى ما تبقى في الشمال من مكونات عسكرية وسياسية من الحركة الشعبية الأم؛ لكن الحكومة السودانية وقتها رفضت الارتباط العضوي سياسيا وعسكريا لقطاع الشمال بدولة الجنوب الوليدة، وهذا الرفض كان يسنده حجج منطقية لا خلاف حولها. ورأت الخرطوم حينذاك أن تنظيم قطاع الشمال يريد أن يمارس عملا سياسيا استنادا إلى قوته العسكرية، ومن ثم فرض رؤاه السياسية ليس بالعمل السياسي المدني، ولكن باستخدام القوة العسكرية فضلا عن ارتباطه بدولة أجنبية.
لقد درجت الحركات المسلحة من لدن الحركة الشعبية الأم بزعامة قرنق على طرح شروط تعسفية تعجيزية؛ مثل إلغاء الشريعة الاسلامية والثقافة العربية وتبني العلمانية أو الانفصال والحكم الذاتي على أقل تقدير، وذلك تكتيك متبع تُحقق به هدفها الأساسي وهو تقاسم السلطة والاستحواذ على أكبر قدر منها. ومع وجاهة قضايا تنمية مناطق الهامش التي تتبناها، إلا أن تبني تلك القضايا بقي دعوة حق أريد بها إشباع نهم سلطوي بائن.
وفيما توقف التفاوض اليوم أو فشل، مع جناح الحلو الذي طرح علمانية الدولة، أُعلن عن توصل الحكومة الانتقالية لاتفاق مع جناح عقار الذي وصفته بأنه اتفاق إطاري، وضع الأساس السياسي والأمني لكل مسارات التفاوض، وسارع جناح الحلو ليؤكد أنه غير معني بهذا الاتفاق. وتعتقد الحكومة أنها حققت نجاحا حين اختارت ما تراه مسارا سهلا وأقل وعورة على أن يشمل ذلك حركات دارفور لاحقا، وبهذا يمكن حصار الحركات المسلحة المتشددة مثل الحركة الشعبية جناح الحلو وحركة عبد الواحد نور الدارفورية.
على حكومة حمدوك أن تقرأ بعناية طبيعة الصراع في تلك المناطق، الذي تؤدي فيه دولة جنوب السودان دورا خطيرا لصالح أجندتها ومصالحها الخاصة، التي تتعارض مع مصالح السودان وأمنه القومي. إن ما يجب التنبّه له أن ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان المحاذيتين لدولة جنوب السودان، هما آليتان مناسبتان لمواصلة تحقيق خطة الحركة الشعبية الأم لتشكيل السودان الجديد الخالي من الثقافة العربية والإسلامية، بعد فشلها في تحقيق ذلك في إطار السودان الموحد.
وهذه المناطق المهمة تعادل مساحة أسكتلندا، أي حوالي ثلاثين ألف ميل مربع، وهي منطقة سافانا غنية تهطل عليها أمطار صيفية غزيرة تكفي لإنتاج محاصيل زراعية مهمة خلال موسم الخريف. وتريدها جوبا معبرا وآلية للنيل من الخرطوم، لكن الخرطوم ظلت في الوقت نفسه لا تعير هذه المنطقة الاهتمام اللازم، ولا تسعى بجدية لمعالجة قضاياها التنموية ومراعاة خصوصيتها الثقافية. لكن ما يمكن أن تستثمره الخرطوم أن شعورا قويا لأبناء منطقة جبال النوبة في قطاع الشمال، يسري بأنهم يستخدمون لصالح أجندة لا علاقة لها بقضايا المنطقة.
وحتى تؤسس حكومة حمدوك لقاعدة تفاوضية متينة وفهم عميق لكيمياء الحركات المسلحة، عليها أن تسأل لماذا بقيت هذه الحركات بعد زوال نظام عمر البشير الذي كانت تقاتله؟ وإن أعادت قراءة تاريخ الحركة الشعبية الأم، لوجدت أن الحركات المسلحة، خاصة قطاع الشمال بجناحيه (الحلو وعقار)، يقتفيان أثر الحركة الأم ولن يجدي التفاوض معها، إلا إذا تغيرت نوايا قادتها السلطوية وليس مزاعم التنمية المتوازنة التي يتخفون خلفها.
عندما أطيح بنظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في 1985 دعت الحكومة الانتقالية حينها جون قرنق للتفاوض من داخل الخرطوم لكنه رفض، وفي تموز/يوليو 1986 قام الصادق المهدي رئيس الوزراء المنتخب بعد الفترة الانتقالية بزيارة إلى إثيوبيا، كان الغرض منها لقاء قرنق متخليا عن صفته كرئيس وزراء، وحتى صفته كزعيم لحزب الأمة تلبية لما اشترطه قرنق عليه. واقترح المهدي في ذلك اللقاء إعادة مناقشة اتفاقية كوكادام بين الحركة وحزب الأمة التي وقعت في وقت سابق، وذلك بغرض إشراك حزبين كبيرين (حسب نتائج انتخابات 1986) هما الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني والجبهة الاسلامية القومية بزعامة حسن الترابي، لكن قرنق رفض ذلك أيضا حيث تضمن اقتراح المهدي إرجاء إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية التي طبقها الرئيس الأسبق جعفر نميري، حتى يتسنى إيجاد بديل لها. وفشل اللقاء، وعقب ذلك مباشرة أسقطت مليشيات قرنق طائرة سودانية مدنية بصاروخ سام 7.
(الشرق القطرية)