قلنا في مقال الأسبوع الماضي، وقبيل الغارة الأمريكية التي استهدفت الجنرال قاسم سليماني (قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري المسؤول عن العمليات العسكرية خارج نطاق الحدود الإيرانية)، أن الولايات المتحدة وإيران لا تريدان الذهاب إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، وأن الرسائل السياسية (عبر السلاح) بينهما في العراق تأتي في سياق الضغط المتبادل في منطقة فراغ يحاول من خلالها كل منهما إفهام الآخر بأنه الأكثر حضورا فيها! فيما تبدو الدولة العراقية، بجميع سلطاتها ومؤسساتها، عاجزة تماما عن التأثير في مسار هذه الرسائل!
بل أن رئيس مجلس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي اعترف بأنه قد «أبلِغ» مسبقا بالغارة الأمريكية على كتائب حزب الله، وهو فصيل ينتمي إلى الحشد الشعبي، ويفترض أنه جزء من القوات المسلحة العراقية كما يقول القانون! تماما كما «أبلِغ» بالقصف الإيراني لما يفترض انه قواعد عسكرية عراقية، قبيل أو أثناء إطلاقها! وأغلب الظن انه قد «أبلِغ» أيضا بالضربة الجوية التي استهدفت الجنرال سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس (الذي يفترض انه قائد عسكري لقوات عسكرية عراقية ولو شكليا!) ولكنه تحرج من الاعتراف بذلك!
وإذا كانت رسالة استهداف الجنرال سليماني،
تبدو وكأنها خارج سياق اللعبة الضمنية بين الطرفين، وأنها تجاوزت للخطوط الحمر
التي يعترف بها الطرفان، خاصة مع التهديدات الإيرانية عالية الصوت! إلا أن الرد
الإيراني «المحسوب»، والذي استهدف قاعدتين عسكريتين عراقيتين تضم قوات أمريكية، من
دون أيقاع أي خسائر في صفوف القوات الأمريكية، قد أعاد اللعبة الضمنية إلى قواعدها
ثانية، وهو ما أكدته تغريدة الرئيس ترامب بعد الضربة عن أن «الأمور جيدة للغاية»،
ثم تصريحاته اللاحقة بأن «إيران تتراجع»، وأن «الولايات المتحدة لا تحتاج للرد
عسكريا على الهجوم الإيراني»!، فضلا عن تغريدة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد
ظريف التي أكد فيها أن إيران «لا تسعى للتصعيد أو الحرب»، ثم تصريحه اللاحق بان
«رد طهران انتهى»!
بعيدا عن هذه الرسائل السياسية عبر القصف
المتبادل الصريح هذه المرة، فان إيران قد ارتكبت خطأين استراتيجيين ما كان لها أن تقع
فيهما، الأول هو استخدامها للصواريخ البالستية قصيرة المدى في هجومها، وهو ما
سيدفع الأوروبيين، وليس الولايات المتحدة وحدها، إلى الإصرار على ضمان «تقييد»
قدرة إيران على إنتاج الصواريخ البالستية، أو تطويرها، في المفاوضات القادمة حول
الملف النووي، بطريقة تختلف هذه المرة عما كان عليه الأمر في الاتفاق السابق (لم
يتضمن الاتفاق النووي الذي وقعته إيران في العام 2015 تقييدات صريحة فيما يتعلق
بالصواريخ البالستية، لكن قرار مجلس الأمن رقم 2231 الصادر في أعقاب الاتفاق تضمن
إشارات صريحة إلى قرار مجلس الأمن رقم 1737 المتعلقة بتطوير منظومات إيصال الأسلحة
النووية).
والخطأ الثاني هو الكشف عن هشاشة أسلحة الردع الإيرانية المفترضة؛ فقد أثبتت الضربة أن هذه الصواريخ البالستية تحمل رؤوسا تفجيرية صغيرة نسبيا ومحدودة التأثير حين يزيد مداها، وأن هذه الصواريخ ليست لديها القدرة على ضمان إصابة أهدافها بدقة عالية، وأنها صواريخ يتم برمجتها قبل إطلاقها وتفتقد إلى إمكانية إعادة توجيهها عن بُعد بعد إطلاقها.
يؤشر الصراع الأمريكي الإيراني على الأراضي
العراقية مرحلة تفرض على الجميع إيجاد حل لمأزق لحظة 2003، التي فشلت في إنتاج
دولة حقيقية، وفشلت في إدارة التعددية، كما فشلت في توفير الحد الأدنى من العيش
الكريم لمواطنيها على الرغم من الأموال الطائلة التي دخلت العراق خلال السنوات
الست عشرة الماضية.
اعتمدت إيران في تغولها في المنطقة على عوامل
موضوعية تتعلق بمناطق النفوذ تلك، وعلى رأسها: فشل بناء الدولة الوطنية، وفشل
إدارة التعددية، ووجود الأنظمة التسلطية التي تستند في ديمومتها على هوية فرعية،
وليس على قوتها الذاتية. وقد نجحت إيران في التعاطي مع قوى هوياتية بحاجة إلى
دعمها في «مظلوميتها»، الحقيقية أو المتوهمة، تجاه الهويات الأخرى، بما فيها هوية
الدولة القائمة نفسها (كما هو الحال في اليمن ولبنان والبحرين)، أو قوى هوياتية
تهيمن على السلطة في دولها لكنها بحاجة للدعم الإيراني للحفاظ على هيمنتها في
مواجهة التحديات الحقيقية التي تشكلها الهويات الأخرى (كما هو الحال في العراق
وسوريا).
وفي هذه الحالات جميعها، كانت إيران تدير بروباغاندا عالية الصوت، واسعة التأثير، عن قدرتها ونفوذها، وتطرح نفسها كلاعب إقليمي ودولي، دون أن تمتلك القدرة الحقيقية لتحمل التبعات المادية (ربما باستثناء الحالة اللبنانية نسبيا)، أو حتى السياسية المباشرة، جراء ذلك.
بدأ التدخل الإيراني يشهد تصدعات حقيقية،
بداية من الدخول السعودي إلى البحرين الذي أفقد الإيرانيين القدرة على اللعب بهذه
الورقة، ثم خسارتها الورقة السورية بعد استحواذ الروس على الملف الروسي، وتحول
الإيرانيين إلى مجرد «ملحق» مهدد بالخروج في حال حدثت تسوية سورية داخلية
مستقبلية، أو في حال توافق أمريكي روسي إستراتيجي بشأن المنطقة ككل في سياق صفقة
القرن.
وفي لبنان أيضا يبدو التدخل الإيراني مهددا بسبب ما يشهده من تحولات اجتماعية وسياسية قد تقوض قدرة حزب الله على الاستمرار بفرض شروطه على الداخل اللبناني. أما في العراق، الذي يعد العنصر الجوهري والأصيل في الاستراتيجية الإيرانية، فقد كشفت حركة الاحتجاج عن تصاعد غير مسبوق لهوية شيعية وطنية، تحاول تعريف نفسها، ووعي ذاتها، من خلال التمايز عن نموذج الهوية الشيعية الأممية العابرة للحدود والأوطان والتي حاول الإيرانيون، وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق بالترويج لها وتكريسها. وكان هذا واضحا من خلال المشاعر الصريحة التي أظهرتها الغالبية العظمى من شيعة العراق ضد التدخل الإيراني.
تشكل هذه التصدعات الخطر الرئيسي على الأيديولوجيا
الإيرانية، لاسيما أن التململ في داخل إيران والمرشح للتصاعد مع استمرار ضغط
الحصار على المجتمع الإيراني، قد يفرض على النظام في النهاية فك الاشتباك بين
إيران الدولة وإيران الثورة بشكل نهائي.
عراقيا وعلى مستوى العملية السياسية، أعادت
المواجهة الأمريكية الإيرانية على أرضه، الاستقطاب القومي والطائفي مرة أخرى، بعد
أن حاول الجميع نكران هذا الاستقطاب طويلا! فقد أظهر التصويت على القرار «الدعائي»
لإخراج القوات الأمريكية من العراق، تباينا واضحا في موقف الهويات الفرعية من هذه
المسألة، حيث كنا أمام رفض كردي وسني شبه مطلق للقرار، في مقابل شبه إجماع للكتل
الشيعية حتى المتصارعة منها عليه!
في الوقت نفسه، أظهرت هذه المواجهة تباينات شديدة في مواقف القوى السياسية الشيعية الرئيسية تجاه شكل الدولة التي يريدونها، بين قوى عقائدية/ ولائية لا تجد نفسها خارج المشروع الإيراني، وبين قوى ترى ضرورة إيجاد مسافة بين المصالح «الوطنية» للدولة العراقية وبين مصالح «الدولة الإيرانية»، بمعزل عن الهوية الشيعية التي تجمعهما معا، ولكنها عاجزة في الوقت نفسه عن الإفصاح عن مشروع متماسك، ومعلن، يستطيع الوقوف بوجه تغول الأولى على القرار الشيعي في العراق.
أخيرا، يؤشر الصراع الأمريكي الإيراني على الأراضي
العراقية مرحلة تفرض على الجميع إيجاد حل لمأزق لحظة 2003، التي فشلت في إنتاج
دولة حقيقية، وفشلت في إدارة التعددية، كما فشلت في توفير الحد الأدنى من العيش
الكريم لمواطنيها على الرغم من الأموال الطائلة التي دخلت العراق خلال السنوات
الست عشرة الماضية!
(القدس العربي)