بسبب الصخب السياسي المنفلت
من عقاله في الشرق الأوسط طوال هذا العقد الثاني من الألفية الثالثة بعد الميلاد،
الذي يشرف على الانغلاق، ليس هناك من اهتمام أو متابعة للأفق الاستراتيجي لشكل
الصراع بين إسرائيل ومحيطها، لا في الأوساط العربية والإقليمية ولا حتى على السطح
السياسي الإسرائيلي، لكن لأنه توجد في إسرائيل مؤسسات ذات طابع استراتيجي، فإنها
لا تغفل هذا الأمر، وتخطط بشكل حثيث ومتواصل لما هو أبعد من الملف الفلسطيني، ولعل
جملة من الشواهد والإشارات، كذلك التسريبات التي تظهر بين فينة وأخرى، تؤكد بأن
إسرائيل عادت لتحلم بتحقيق فكرة "إسرائيل الكبرى"، وإن على المستوى
الاقتصادي.
قبل بضعة أشهر، حدث "توتر عرضي" حين
قام سائحون إسرائيليون يهود، بممارسة شعائرهم الدينية في البتراء الأردنية، وقبل
أيام أعلنت الخارجية الإسرائيلية عن زيارة إسرائيلي/يهودي للكويت حاملا معه رموزا
دينية، وتصر إسرائيل عبر الولايات المتحدة بالضغط على أكثر من بلد عربي للسماح
لليهود الإسرائيليين بزيارة معابد أو كنس في تونس والمغرب بجوازات سفرهم
الإسرائيلية، والدخول إلى بعض دول الخليج بجوازات السفر تلك رغم عدم وجود علاقات
دبلوماسية بين دولتهم والدول العربية، وهناك اختراقات في ذلك الجانب، أقل ما يقال
فيها، بأنها تتجاوز الموقف السياسي العربي، ولا تعترف بنفس الوقت بفكرة التعامل
بالمثل، أي السماح ليس للعرب المسلمين والمسيحيين فقط، بل للفلسطينيين أنفسهم
بالوصول إلى أماكنهم المقدسة، إن كانت تلك التي في القدس أو في الخليل.
ويبدو أن الصراع السياسي
الذي تمحور خلال خمسة عقود مضت، ثم تركز حول حل الدولتين، كان كابحا للجنون
الإسرائيلي وتطرفه الذي بات يفكر بما لا يخطر على بال، لكن مع تراجع أفق هذا الحل،
باتت "القوات الضاربة" أو المجموعات المتطرفة من اليهود الإسرائيليين
تفكر بعيدا، بحيث باتت فكرة أو حلم الإمبراطورية اليهودية أو دولة إسرائيل الكبرى
تداعب مخيلتهم المريضة، بشكل فعلي وحقيقي.
فقبل أيام نشرت صحيفة "إسرائيل
اليوم" تقريرا حول قيمة الأملاك اليهودية في الدول العربية وإيران، وقدرتها
بنحو 150 مليار دولار، وهذا بشكل أولي، وأشارت إلى أن متابعة هذا الملف بدأت عام
2002، للرد على المطلب الفلسطيني المشمول بقرار الأمم المتحدة الخاص بحق عودة
اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، لكن هذا الملف توقف عن المتابعة إلى أن بعثت الروح
فيه مجددا العام 2017، أي بعد أن انشغلت المنطلقة العربية بمشاكلها الداخلية
الناجمة عن التظاهرات الشعبية وإسقاط عدد من أنظمة الحكم، وإغلاق الأبواب في وجه
المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وإرسال حل الدولتين إلى الرف.
منذ العام 2017 يتابع هذا
الملف بشكل رسمي، حيث كشفت وزيرة المساواة الاجتماعية في حكومة اليمين المتطرفة جيلا
جملئيل عن مشروع سري مع مجلس الأمن القومي هدفه الوصول إلى تقدير ممتلكات اليهود
في الدول العربية، حيث من المتوقع أن تقدم الوزيرة المذكورة خلال الأسابيع المقبلة
النتائج المفصلة لرئيس الحكومة.
وتستند جملئيل إلى قانون
اتخذ عام 2010 والذي تتم بموجبه المطالبة بتلك التعويضات في أية مفاوضات مستقبلية،
وفي التفاصيل يشير التقرير إلى أن تلك الأموال تقدر بنحو 31،3 مليار في إيران، 6،7
في ليبيا، 2،6 في اليمن، 1،4 في سورية.
قد يبدو لوهلة أولى هذا
الحديث يشبه سردا خياليا، لكن في حال تجاوزت إسرائيل، أو سمح لها بتجاوز الملف
الفلسطيني، فإن جمع كل هذه الإشارات يعني شيئا واحدا، وهو أنها تطمع في الكثير في
دول الجوار، بل وفي عموم المنطقة، والأمر إذا كان في المجال الاقتصادي يبدو واضحا،
خاصة مع الخارجية الإسرائيلية التي أعلنت أكثر من مرة عن مشاريع طموحة خاصة بربط
المنطقة من الخليج العربي إلى البحر المتوسط بشبكة سكك حديدية أو مترو أنفاق، عبر
رؤية سياحية واقتصادية لها علاقة بمد أنابيب الغاز إلى أوروبا عبر مياه المتوسط،
فإن الجانب الديني ما زال يبدو خفيا، لكنه مثل النار التي هي تحت الرماد.
فلو بدأت إسرائيل تطالب بحق
وصول مواطنيها المتدينين إلى كل أثر، تدعي بأن له جذرا توراتيا أو يهوديا، فإن ذلك
يعني أن كل الأرض العربية ستكون مستباحة لها، من المغرب إلى اليمن، مرورا بالطبع
بمكة حيث بيت أبينا إبراهيم، والأردن والعراق وسورية وإيران.
أما فيما يخص ما تقول عنه
بممتلكات اليهود في الدول العربية وإيران، فإن الأمر تعدى أن يكون إعداد ملفه للرد
على المطالبة الفلسطينية بتنفيذ حق العودة والتعويض، ليس لأن الحق الفلسطيني مكفول
بقرار الأمم المتحدة، فيما ليس هناك أي سند قانوني يدعم المطالبة الإسرائيلية،
ولكن لأن الملف الفلسطيني لم يعد على طاولة البحث الإسرائيلي، هذا من جهة ومن جهة
أخرى، فان الادعاء الإسرائيلي لا يعدو كونه سطوا وتزويرا للحقيقة التاريخية، حيث
لم تقم ولا أي دولة عربية ولا إقليمية بطرد أي يهودي، بل إن الوكالة اليهودية هي
التي كانت تشجع اليهود العرب والإيرانيين على الهجرة، لإنجاح فكرة إقامة دولة
إسرائيل، ومعظم من هاجروا إليها من يهود عرب، باعوا ممتلكاتهم قبل أن يخرجوا،
وكثير منهم خرجوا إلى دولة أوروبية، واستقروا فيها، أو أنهم واصلوا طريقهم بعد ذلك
لإسرائيل.
ولا مقارنة بين تهجير
الفلسطينيين عام 1948 في وطنهم وخارجه، حيث لجأت العصابات الصهيونية من أجل ذلك
إلى عقد المذابح بحقهم، وكان وطن الفلسطينيين ساحة حرب، فيما لم يقتل يهودي واحد
في أي بلد عربي، للقول بأن من هاجروا منه لإسرائيل قد تم تهجيرهم أو أنهم اجبروا
على الخروج.
لكن إسرائيل المتطرفة التي تستند إلى ثقافة
دينية لاهوتية، باتت بسياساتها خطرا على السلام في الشرق الأوسط كله، ما لم يفرض
عليها الانكفاء لتعيش داخل حدود العام 1967 في سلام مع جارها الفلسطيني أولا،
لتعيش بسلام مع المحيط العربي/الإسلامي ثانيا.
(الأيام الفلسطينية)