عانت السياسة التركية في سوريا من الكثير من التحديات خلال السنوات الأخيرة، بدايةً تم وأد جهود الثورة التي تدعمها، كما تحولت مشكلة اللاجئين لقضية سياسية وطنية، وإسقاط الطائرة الروسية كاد يؤدي لأزمة دولية.
ناهيك عن الإشكال الإستراتيجي المتعلق بوجود ميليشيات كردية على الحدود، كل هذه التحديات شكلت عبئاً ثقيلاً حيث صار الرئيس التركي ومن خلفه حزب العدالة والتنمية يعاني من آثار السؤال السوري في استحقاقاته الانتخابية، ولذلك كان نجاح هذه الإستراتيجية الأخيرة في شمال سورية أساسياً وامتحاناً وجودياً بالنسبة للقيادة التركية الحالية.
المطالب التركية الرئيسية قبل العملية كانت إزاحة الأكراد عن شريط عمقه 32 كيلومتراً من الحدود وتأسيس منطقة آمنة في هذه المساحة يمكن إعادة نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين لدى البلاد إليها.
وعلى المستوى الداخلي أرادت القيادة التركية التعامل مع تحديات ثلاثة، الأول هو تنامي المشاعر السلبية تجاه السوريين والذي تحمل الحكومة مسؤولية زيادة أعدادهم، التعامل مع المشكلة الكردية على الحدود والتي تستغلها المعارضة ضد الحزب الحاكم، وإعادة صورة القائد الوطني القوي لأردوغان خاصة مع نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة التي تشير لتراجع شعبية الحزب الحاكم.
وعلى ضوء هذه المطالب والتحديات كان الضغط التركي لصالح تطبيق اتفاق المنطقة الآمنة والذي كانت واشنطن تقدم فيه رجلاً وتؤخرها لسنوات.
خيار التدخل العسكري المباشر كان أمامه عدة تحديات، الأول هو إمكانية مواجهة مع واشنطن، الثاني هو أن تجر تركيا لحرب استنزاف في الشمال السوري مع الأكراد، والثالث هو أن تضطر تركيا للانسحاب نتيجة ضغط دولي مما سيضعف موقف الحكومة داخلياً وخارجياً، في المواجهة مع واشنطن من الواضح أن الأتراك نسقوا ببراعة مع إدارة ترامب بحيث يكون المكسب الأمريكي هو سحب قواتهم من هذه المنطقة، بالإضافة إلى التخلص من عبء دعم الأكراد، وحيث إن نمط التعامل مع ترامب أصبح واضحاً يبدو أنه لم يكن صعباً على الأتراك توقع نمط التعامل مع الموضوع.
أولاً يخرج ترامب مؤيداً للعملية داعماً لسياسة "الرجل القوي" التركية ثم بعد تزايد الضغط عليه يفرض بعض العقوبات ويصدر تصريحات تثبت أنه "قوي" وثم من خلال تسريب الخطاب المحرج الذي أرسله لأردوغان يضطر البيت الأبيض لتوخي الحذر في تصريحاته ضد أردوغان الرسمية ويضطر ترامب لمدح أردوغان، هذا هو النمط الذي تعامل به ترامب مع بوتين والرئيس الكوري الشمالي وقيادات في الشرق الأوسط سابقاً وبالتالي نجح الأتراك في توظيفه لصالحهم.
ومن خلال تحقيق مكاسب سريعة على الأرض والنجاح في دفع واشنطن للضغط على الأكراد بالانسحاب، نجحت تركيا في تجنب حرب استنزاف ومكنها هذا الموقف الأمريكي الضاغط على الأكراد من إيقاف العملية من موقف قوة، حيث تهدد الحكومة التركية اليوم باستئناف العمليات العسكرية إذا لم ينفذ الأكراد الانسحاب.
يضاف إلى ذلك الاعتماد على العناصر السورية على الأرض بشكل أساسي، اليوم وافق الأكراد على الانسحاب وبأقل خسائر متصورة من الجانب التركي، بل وستساعد الضربات المحدودة التي وجهها الأكراد لمدن تركية على ترسيخ فكرة "الخطر الكردي عبر الحدود" والذي يمكن لأردوغان توظيفه خلال أي استحقاقات أو صراعات قادمة داخلياً.
يبقى الضغط الدولي تحدياً خاصة من أوروبا والمؤسسات والطبقة السياسية الأمريكية، اليوم تفرض عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة عقوبات متعددة سواءً على مستوى تصدير السلاح أو عقوبات تستهدف أفراداً في الحكومة التركية ولكن من الواضح أن الحكومة التركية قدرت خسائرها بسبب الحملة الغربية على العملية ووجدت أن الوضع لن يتأثر كثيراً.
لفترة طويلة تعاملت أوروبا بنفاق شديد مع الحكومة التركية، متقبلةً كافة الأعمال القمعية من حكومات أخرى ومسلطة الضوء على ما يحدث في تركيا من تجاوزات وكأنه حالة استثنائية، وبالتالي لا يشكل الموقف الأوروبي الحالي نقلة أو خسارة استراتيجية بالنسبة للسياسة الخارجية التركية، خاصة أن أوروبا خلال الأزمات الدولية الأخيرة لم تزد على الإدانة والإجراءات الشكلية حين قامت دول مثل روسيا بضم القرم مثلاً ما يعني أنه ليس هناك قلق من ردة فعل حقيقية أوروبياً.
أما الوضع في واشنطن فيبقى في إطار التفاعلات الداخلية مع إدارة ترامب، فالمؤسسات مرتبكة بسبب عدم وجود سياسة خارجية واضحة، والطبقة السياسية منقسمة بين من يريد إسقاط ترامب بأي طريقة ومن يريد أن يحميه بالتالي ستضيع الاحتجاجات على نبع السلام في دهاليز السياسة المحلية.
العملية التركية مثلت مجموعة انتصارات مهمة بالنسبة للحزب الحاكم تركياً، استثمار ارتباك واشنطن وعجز أوروبا وحالة التنسيق والمكاسب المشتركة مع روسيا بحرفية ضمن تحقيق أكبر المكاسب بأقل الخسائر حتى الآن، لا تزال هناك تحديات أمام إستراتيجية تركيا في الشمال السوري، ولكن ما تحقق حتى الآن هو بلا شك لصالح الحكومة التركية.
عن صحيفة الشرق القطرية