بدأ شعب مصر العظيم يستفيق من السُبات الذي وقع فيه إثر انخداعه
برغبة عبد الفتّاح السيسي في إنقاذه من آلامه الاقتصادية والاجتماعية كما بقدرة
المذكور على إنجاز ذلك الإنقاذ. ومثلما رأينا مصريا مقيما في الخارج، يُدعى وائل
غنيم، يلعب دورا بارزا في إشعال فتيل «ثورة 25 يناير» عام 2011 من خلال وسائط
التواصل الاجتماعي، نرى الآن مصريا آخر مقيما في الخارج، هو المقاول والممثّل
محمّد علي، يلعب دورا مماثلا، بل أكبر، في إشعال فتيل جديد قد يؤدّي إلى تفجير
ثورة أخرى. فهل ينجح الانتشار الأمني الهائل في ردع المتظاهرين أو تتحوّل ينابيع
يوم الجمعة الماضي إلى تيّار جارف يوم الجمعة القادم، هذا هو السؤال. ولو تمّ
الاحتمال الأخير، تكون المرّة الثالثة التي تهبّ فيها الجماهير المصرية ضد الحكم
القائم بغية إسقاطه، وفي المرّتين السابقتين عبرة للمرّة القادمة لا بدّ من
استيعابها لتفادي تكرار أخطاء كانت لها عواقب وخيمة.
يوم
14 فبراير/ شباط الماضي، نظّم «مركز التقدّم الأمريكي» في واشنطن ندوة تحت عنوان
«الانتفاضات العربية بعد ثماني سنوات»، شارك فيها سفيرا الولايات المتحدة في كل من
تونس ومصر أثناء «الربيع العربي». وقد أفصحت آن باترسون، سفيرة أمريكا في القاهرة
طوال سنوات الغليان الثوري (2011-2013)، أفصحت في مداخلتها عن حقائق أكّدت مدى فهم
أعضاء السلك الدبلوماسي لأمور لا تنعكس دائما في سياسات حكوماتهم، كما سبق أن
بيّنت تسريبات ويكيليكس. فقد قالت السفيرة السابقة «إن العسكريين المصريين هم الذين
تخلّصوا من مبارك وهم الذين تخلّصوا من مرسي، وإذا كان لأحد أن يتخلّص من السيسي
فسوف يكون العسكريون المصريون، فلم تكن العملية ديمقراطية».
وأشارت
باترسون إلى العلّة الرئيسية في المؤسسة العسكرية المصرية التي أنفقت عليها
واشنطن، على حدّ قولها، 45 مليار دولار خلال العقود التي انصرمت منذ أن نقل أنور
السادات مصر من الارتهان بالاتّحاد السوفييتي إلى الارتهان بالولايات المتحدة.
فقالت إن انشغال القوات المسلّحة المصرية بالأعمال والمقاولات قد أفسدها إلى حدّ
أنها لم تقدر على مواجهة ألف مقاتل في سيناء بلا عون من إسرائيل. وتأسفت على أنه
كان هناك في الماضي «ضبّاط بارعون للغاية» في الجيش المصري، «لكنّهم تحوّلوا مع
مرور الزمن إلى نوع من الطبقة الريعية»، والكلام للسفيرة وهو متوفّر على الإنترنت.
هل
ينجح الانتشار الأمني الهائل في ردع المتظاهرين أو تتحوّل ينابيع يوم الجمعة الماضي
إلى تيّار جارف يوم الجمعة القادم، هذا هو السؤال. ولو تمّ الاحتمال الأخير، تكون
المرّة الثالثة التي تهبّ فيها الجماهير المصرية ضد الحكم القائم بغية إسقاطه؟
الحقيقة
هي أن السيدة باترسون، التي اتُّهمت في عام 2013 بالوقوف مع محمّد مرسي بسبب
اعتراضها على الانقلاب العسكري من منطلق الحرص على الديمقراطية (تجدر الإشارة إلى
أنها صرّحت في ندوة واشنطن ذاتها بأن السياسة الأمريكية إزاء القاهرة تحدّدها
علاقة مصر بإسرائيل، لا غير)، إنّما أصابت تماما في حديثها. فإن الإطاحة بحسني
مبارك في الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011، شأنها في ذلك شأن الإطاحة بمحمّد مرسي
في الثالث من يوليو/ تمّوز 2013، جرتا من خلال انقلابين عسكريين. وإن صحّ أنهما
حصلتا على خلفية حراك شعبي عارم، يبقى أن العسكر ظلّوا ماسكين بزمام الأمور في
الحالتين. وقد باتت القيادة العليا للقوات المسلّحة المصرية أكثر تشبّثا بوصايتها
على السلطة منذ أن فسح أمامها السادات وبعده مبارك مجالا واسعا للإثراء في نشاطات
اقتصادية، معظمها من النوع الريعي (لاسيما ما يتعلّق منها بالعقارات). ويبدو أن
المقاول محمّد علي، الذي كان يخوض في تلك النشاطات مع الجيش، ومع السيسي وحاشيته
بوجه خاص، وصل به الأمر إلى حدّ «تصفية الحسابات» معهم على الصعيد السياسي بعد أن
يئس من الحصول على حصّته من الأرباح.
ومهما
يكن، فإن كشفه عن بعض فضائح الإثراء غير المشروع والإنفاق غير المعقول كان بمثابة
النقطة التي جعلت الكيل يطفح لدى شعب مصر بعد ثلاث سنوات من تكبّده خسائر جسيمة في
قدرته الشرائية. وليس من وصف أوضح لذلك التردّي في مستوى معيشة الجماهير المصرية
من المعطيات التي وردت في «بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك» لعامي 18/2017 الذي
أجراه «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء»، والذي أظهر فيما أظهر كيف ارتفعت
نسبة الفقراء باطّراد وتدهورت شروط العمل في ظلّ حكم السيسي (أنظروا المقابلة
الممتازة التي أجرتها بيسان كسّاب مع الأستاذة هبة الليثي، المشرفة على البحث المذكور،
في «مدى مصر» 18/8/2019).
وللأسف،
أصابت أيضا السفيرة باترسون في قولها إن العسكريين وحدهم قادرون على إزاحة السيسي
من منصبه الرئاسي مثلما أزاحوا سلفيه. ذلك أن «الدولة العميقة» في معظم بلدان
منطقتنا تستند بصورة فجّة إلى القوة العسكرية بحيث لا يمكن التغلّب عليها في المدى
القصير سوى بمعونة عسكرية خارجية مثلما حصل في ليبيا، هذا إذا لم يحصل النظام ذاته
على معونة خارجية كما في حال النظام السوري. فالسيرورة الثورية الإقليمية طويلة
الأمد التي انطلقت من قلب تونس في نهاية عام 2010 لم تشهد إسقاط رؤساء سوى في الحالات
التي رأينا فيها الجهاز العسكري المُشرف على النظام يتخلّى عن الرئيس ويأمره
بمغادرة الحكم كما في تونس ومصر 2011 والجزائر 2019، أو يطيح به كما في مصر 2013
والسودان 2019.
وهذا
يعني أن الأمل الوحيد في مصر في المدى القصير هو أن يبلغ الحراك الجماهيري من الغزارة
والاتّساع ما يُقنع المؤسسة العسكرية بضرورة التخلّص من رئيس بات عبئا عليها وخطرا
على صورتها ومصالحها. غير أنه من الأهمية بمكان أن تستفيد الحركة الشعبية المصرية
من تجربتيها الماضيتين ومن التجربة الجارية حاليا في السودان والجزائر. ففي
الجزائر كما في السودان، لم تكفِ إزاحة القوات المسلّحة للرئيس كي تقع الجماهير في
شَرك عشق القيادة العسكرية مثلما حصل في مصر في عامي 2011 و2013. وخيرُ ما يمكن أن
نتمنّاه لمصر هو أن تتمكّن الحركة الشعبية فيها من التزوّد بقيادة تتمحور حول قوى
المجتمع المدني التقدّمية وتبني في الشارع سلطة موازية للدولة العميقة بحيث تُرسي
ازدواجية سلطة، على غرار ما حصل في السودان، وتدشّن مرحلة انتقالية تعمل خلالها
الحركة الشعبية على تحقيق انحياز الجنود والضباط الوطنيين المخلصين إلى صفوف
الشعب، متحرّرين من تسلّط أعضاء القيادة العليا الذين لا إخلاص لديهم سوى لمصالحهم
الريعية، كما أدركت السفيرة باترسون تمام الإدراك.
(القدس العربي21)