ربما غابت عن المهرولين للتطبيع مع إسرائيل بل والتحالف معها بعض الحقائق عن خشية النخب الإسرائيلية نفسها على مصير الدولة العبرية، لأن عديد المؤشرات تنذر بمستقبل مجهول بسبب سياسات التعنت اليميني المتطرف، مستندا إلى الرئيس ترامب وحده، فبعد سكوت المدافع وتوقف الصواريخ وعودة القاصفات إلى مطاراتها العسكرية في إسرائيل على إثر العدوان الأخير على جنوب لبنان بتعلة القضاء على وكلاء إيران، ورجوع الآباء والأمهات من مواكب جنائز 600 من الأطفال الفلسطينيين الشهداء، الذي قتلوا خلال عام في تظاهرات العودة على حدود إسرائيل، بدأت محاكمة التاريخ بسرعة قياسية للجناة قتلة الأطفال؛ لأن رائحة الفسفور الأبيض وبقايا اليورانيوم المسكوب ظلت تزكم أنوف اليهود في كل مكان، كما ظلت صور أشلاء الأطفال في غزة تؤرقهم وتمنعهم من النوم الهادئ الذي تعودوه منذ سبعين عاما.
اليوم، وعلى مئات الصحف والمجلات الأمريكية والأوروبية، نقرأ عناوين متشابهة لعلنا نوجزها في السؤال الخطير التالي وهو: ما هو مصير إسرائيل؟ كان هذا هو عنوان الغلاف للأسبوعية الباريسية الموالية لإسرائيل (لكسبريس) وغيرها من وسائل الإعلام الفرنسية والألمانية والبريطانية والإسبانية والإيطالية، وفي عقر الولايات المتحدة أيضا بل وفي إسرائيل ذاتها. السؤال المخيف نفسه مطروح على الجمهور بنوايا مختلفة وبإجابات متنوعة، لكن برصيد مشترك من الخوف، بل الرعب بدأ ينتشر من الأوساط الإعلامية إلى الأوساط الدبلوماسية والبرلمانية إلى الدوائر الشعبية والمجتمعات المدنية، في شكل إعصار من تلك الأعاصير الكارثية التي تلتف على المدن كالثعابين، فتأتي على الأخضر واليابس وتحول العمران إلى هشيم. لوموند اليومية الفرنسية الأشهر نشرت رسالة مفتوحة بعث بها الكاتب الفرنسي اليهودي (جون مويز بلايتبارغ) إلى رئيس دولة إسرائيل يطلب منه فيها شطب اسم جده (موشي بلايتبارغ) ضحية النازية من لوحة الذاكرة بمتحف يادفاشيم، وكان هذا الجد لقي حتفه عام 1943 في محتشد تريبلنكا.
وقال الكاتب في رسالته: لقد ارتكبتم في حق أطفال غزة الجرائم البشعة نفسها التي كنتم أنتم ضحاياها، وبذلك تفندون ما زعمته دولة إسرائيل من أن إقامة متحف لذكرى اليهود ضحايا النازية غايته هي أنه لن ترتكب مثل تلك الجرائم أبدا! وذكر الكاتب اليهودي بأن الرد الوحيد الذي أجابت به إسرائيل على مبادرات السلام الفلسطينية منذ عام 1948 كان هو استعمال القوة ومنهجة العنف وسفك الدماء، وإقامة الحواجز والجدران وتوسيع الاستيطان، وخرق القانون الدولي وفرض الحصار على الشعب الفلسطيني. أما العدد الخاص بمصير إسرائيل من مجلة (لكسبرس) الباريسية، فحمل نص حوار بين مثقفين اثنين يهوديين، أحدهما هو جاك أتالي المستشار الأسبق للرئيس الراحل فرنسوا ميتران، والثاني هو الكاتب الإسرائيلي شلومو صاند، الذي صدر آخر كتاب له بعنوان (كيف تم اختراع الشعب اليهودي بالأوهام؟)، ويحطم هذا المثقف اليهودي كل الخرافات التوراتية التي تأسست عليها الدولة العبرية، قائلا إن دولة إسرائيل تناقض الدين اليهودي لكنها تستغله لتبرير وجودها، وأكد صاند أن تبرير استعمار أرض فلسطين اعتمد على الأيديولوجية الصهيونية المتعصبة القائمة بدورها على الخرافات.
وفند شلومو ما أطلق عليه هو ذاته أساطير الوعد والهجرات والتفوق العرقي، التي تعتبرها الصهيونية حقائق لا تناقش لتبرير العدوان المستمر، وقال إن هذه الخرافات يقع توظيفها اليوم ضد شعب آخر هو شعب فلسطين، مؤكدا الطابع العنصري لقوانين إسرائيل القاضية باعتبار العرب أغرابا ومن درجة أقل، والقاضية أيضا بألا يتزوج اليهودي إلا من يهودية!
وأضاف شلومو صاند أن دولة إسرائيل تمارس الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني منذ 53 سنة، ومن ثم فإن ادعاء إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية يشبه تماما ادعاء الرئيس بوش بأنه احتل العراق لفرض الديمقراطية! وأكد صاند أن مواطنا فرنسيا من الطائفة اليهودية ومولود في باريس، يمكنه أن يحصل في يوم واحد على الجنسية الإسرائيلية ويتمتع بكل حقوق المواطنة، في حين أن مواطنا عربيا فلسطينيا مولودا في فلسطين منذ ألف جد، لا يتمتع بأي حق! الغريب هو أن ما قاله هذا الكاتب اليهودي (والإسرائيلي) يتجاوز كثيرا ما كتبه صديقي المفكر الفرنسي المسلم رجاء جارودي وحاكمته محكمة فرنسية بسببه عام 1998!
إن التغيير العميق الذي تنجزه هذه الأقلام في صورة إسرائيل أمام الغرب، يتعزز يوميا بمقالات إسرائيلية جريئة تنشرها الصحف الإسرائيلية تنعت الدولة العبرية بالفاشية؛ كما كتب (جدعون سامت) في «معاريف» وبالكيان الهتلري كما قال (عكيفا أليدار) في «هآرتس» كل هذه المؤشرات الجديدة بدأت تغير رؤية الرأي العام العالمي وتقييمه لطبيعة إسرائيل، وهو مما لا شك سوف يدفع الإدارة الأمريكية إلى المراجعة والتفكير في مصير إسرائيل، حتى ولو حبا في إسرائيل مهما كانت عقيدة (ترامب) التي تتقاسم الأيديولوجية الإنجيلية! فمنافس ترامب القادم هو (جو بايدن) مساعد (أوباما) سيتفاعل مع ضمير الأمة الأمريكية، ويضطر إلى ابتكار سياسات جديدة ومنطقية أعدل حتى يتجاوب مع تطلعات وإرادة ناخبيه. ولا ننسى أن وزير خارجية الولايات المتحدة في الأربعينيات جورج مارشال كان معاديا للرئيس ترومان الذي خلق دولة إسرائيل من عدم، ونصحه بعدم كسر التوازن الشرق الأوسطي قائلا: يا سيدي الرئيس، أنت ستخلق كيانا ضد مصالح أمريكا على المدى البعيد! فهل بدأت تتحقق نبوءة مارشال؟
عن صحيفة الشرق القطرية