يوم الجمعة، انهارت اتفاقية تتعلق بحظر الانتشار النووي دعمت ثلاثة
عقود من الأمن العالمي. ففي 1987، وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي
معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، التي أفضت إلى التخلص من أكثر من 2600
صاروخ باليستي نووي وتقليدي أميركي وسوفييتي، وخاصة أنظمة الأسلحة التي تطلق من
الأرض ويتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر. وكانت هذه المسافة، إضافة إلى قدرتها
على ضرب أهدافها في غضون 10 دقائق، قد جعلت من هذه الصواريخ مصدر خوف دائم، بشأن
إمكانية إساءة التقدير خلال زمن الحرب الباردة.
الاتفاقية
المحورية المدعومة بعملية تحقق وتفتيش من الجانبين، قضت فعليا على فئة كاملة من
الأسلحة النووية، وأزالت التهديد النووي الدائم الذي كان يخيم على أوروبا. كما
أطلقت عملية أخرى طويلة قلصت من خلالها واشنطن وموسكو ترسانتيهما النوويتين.
ولكن
في عهد الرئيس دونالد ترامب، أعيدت عقارب الساعة إلى الوراء. ففي فبراير الماضي،
أعلنت إدارة ترامب اعتزامها الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى
الحالية في غضون ستة أشهر، بسبب شكاوى أميركية قديمة من انتهاك روسيا لبنود
الاتفاقية من خلال تطوير صاروخ كروز جديد قادر على حمل رؤوس نووية. ولطالما نفى
الروس وجود هذا الصاروخ، ولكنهم اليوم باتوا يقولون إن مداه لا يتجاوز 500 كيلومتر.
وعلى
كل حال، فإن موسكو لم تثر جلبة كبيرة بشأن الانسحاب من المعاهدة، وبدت راضية
بانقضاء أجلها. ويذكر هنا أن المسؤولين في كلا البلدين كانوا يشعرون بأن أيديهم
مقيدة بسبب المعاهدة. فقد كانت روسيا تتابع بقلق في كل مرة تقوم فيها الولايات
المتحدة بنشر نظام صاروخي جديد مع حلفاء في أوروبا وآسيا. وعلى الطرف الآخر، كان
«الصقور» في واشنطن، وخاصة مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جون بولتون،
ينظرون إلى المعاهدة باعتبارها شيئا في غير تاريخه الصحيح وقيدا يقيّد الخيارات
الاستراتيجية الأميركية، ولا يؤثر على قوة صاعدة مثل الصين.
ويعتقد
محللون أن سباق أسلحة جديدا قد يكون في الأفق. وفي هذا السياق، قال المحلل العسكري
الروسي «بافل فيلجنهوار» لوكالة الأنباء الفرنسية «أ ف ب»، متحدثا عن خطوات
الكريملن المقبلة: «الآن وقد انتهت الاتفاقية، سنرى تطوير ونشر أسلحة جديدة».
ويُعتقد أن الولايات المتحدة أيضا تقوم بتطوير ثلاث فئات على الأقل من الصواريخ
المتوسطة – جميعها موجهة لحمل رؤوس حربية تقليدية.
وفي
مذكرة عبر البريد الإلكتروني، حذّر جان تيشو من «صندوق مارشال الألماني» من أن
انهيار معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى هو «الدليل الأوضح» على تغير الرياح
الجيوسياسية. وقال: «واشنطن تعتقد أنه من أجل استعادة التعادل الاستراتيجي مع
الصين في هذا المجال، فإن الأمر يستحق التضحية بالاستقرار الأوروبي»، مضيفا: «وإذا
كان هذا أمرا يمكن تفهمه على المستوى العالمي، فإنه يمثل مأساة بالنسبة لأوروبا».
نهاية
معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى تعبّد الطريق أيضا لعملية تفكيك أوسع. فمؤخرا،
أشار «بولتون» إلى أنه يريد أيضا إنهاء معاهدة «ستارت الجديدة» (معاهدة تقليص
الأسلحة الاستراتيجية) الموقعة في عهد أوباما، والتي ينقضي أجلها في 2021. هذه
الاتفاقية التاريخية حدّت أيضا من عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية التي تنشرها
الولايات المتحدة وروسيا. وعلى غرار شكاواهم بشأن معاهدة الأسلحة النووية متوسطة
المدى، يحاجج بولتون ورفاقه بأن «ستارت الجديدة» غير ملائمة للوقت الحاضر ويشتكون
من أنها لا تشمل الأسلحة قصيرة المدى أو الأسلحة النووية التكتيكية.
غير
أن المنتقدين ينظرون إلى هذه الحجج باعتبارها غطاء يحجب نزعة إلى العسكرة. وفي هذا
الإطار، كتب خبيرا مراقبة التسلح بروس بلير وجون وولفستال يقولان: (إن ما يميز هذه
العقليات النووية المتنافسة هو فكرة «التصعيد والهيمنة»، حيث يعتقد طرف أنه يستطيع
استخدام الأسلحة النووية ولكنه بصورة ما يمنع الطرف الآخر من فعل الشيء نفسه).
ويضيفان: «هذا الغرور بات يحرّك السياسة النووية الأميركية على نحو متزايد.
والرئيس ترامب ومستشاروه تبنوا هذه المجموعة الخطرة من السياسات، ويسعون وراء ما
يسمى أسلحة نووية «منخفضة القوة» من أجل جعل هذه التهديدات سهلة التنفيذ».
وفي
رد فعله على هذه التطورات، قال أمين عام الأمم المتحدة السابق بان كي مون في بيان:
«إن ثمة إمكانية حقيقية جدا لانهيار كل الهندسة الأمنية المتعلقة بحظر الانتشار
النووي التي أنشئت خلال عقود المواجهة بين القوتين العظميين، وذلك من خلال
الإهمال، وإساءة التقدير، والتحليل الخاطئ للتهديدات».
وفي
حوار مع إذاعة «صوت أميركا»، تأسف جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي الذي لعب
دورا محوريا في التفاوض بشأن معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى لعام 1987،
للنسيان وفقدان الذاكرة المتزايد، بشأن التهديد الذي تطرحه الأسلحة النووية. وقال:
«عندما يتم التخلص من شيء مثل معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى كأنها لا شيء،
فإن ذلك يظهر لك إلى أي مدى نسي الناس قوة الأسلحة»، مضيفا: «ولكن يوما ما سيكون
الأوان قد فات».
عن
صحيفة الاتحاد الإماراتية