ماذا يعني غياب قائد السبسي لحلف الإمارات؟

حتى إن تظاهروا بالحزن عليه وأرسلوا بحلول الأجل برقيات التعازي في وفاته، فسيكون هؤلاء الذين كانوا سنوات إلى الوراء أقوى داعميه للوصول إلى الرئاسة، هم آخر من سيذرف الدمع السخي على فراقه. ولعل ذلك يتأجل الآن بعد أن تعافى رئيس تونس على ما يبدو، وتجاوز كما أخبر ابنه «مرحلة الخطر». لكن لو فرضا صدقنا مراسلة العربية، التي سارعت الخميس الماضي للتأكيد على أن الرجل فارق الحياة قبل ساعة من ظهورها المباشر على الشاشة، فما الذي كان سيعنيه ذلك لأنصاره ومحبيه، وبالخصوص لخصومه وخصوم الديمقراطية في تونس، وعلى رأسهم دولة الإمارات بالذات؟ وهل كان هؤلاء سيحققون من ورائه كسبا ما؟

لم يكن الرئيس التونسي قديسا ولا وليا صالحا، بل كان أعداؤه يرونه على النقيض من ذلك تماما، ولعلهم لم يغفروا له أبدا كيف تجرأ على القرآن والشريعة، وطالب بالمساواة في الإرث وقال إن تونس «لا مرجعية دينية لها». وهو لم يكن أيضا ثوريا أو من الذين يرتاحون للثورة والثوار، رغم انه لم يرضخ لمحور الإمارات حين طالبه بقطع تحالفه مع الإسلاميين، وأراد أن ينتزع منه موقفا مؤيدا لحصار قطر.

ومع كل ذلك فها هو اليوم يقترب من الموت ثم يعود للحياة قبل أن يحل أجل غمضته الأخيرة. ولو كتب الله له أن يخرج سالما معافى من وعكته الصحية الجديدة فلعل أول شيء سيقوله للتونسيين بدعابته المعهودة هو، أنه كالقط بسبع أرواح، وربما سيذكرهم كعادته أيضا بالمرات التي نجا فيها من الموت، ويخبرهم عن رفاقه الذين نفذ فيهم المستعمر حكم الإعدام ويختتم فيقول بأنه لم يكن أفضل منهم وأنه استعد منذ زمن بعيد للحظة التي «يتسلم فيها الخالق أمانته».

ولكن المؤكد أن قائد السبسي لن يفصح لهم أبدا عن حقيقة ما جرى له في السابع والعشرين من الشهر الماضي. فتفاصيل ذلك اليوم ستظل محفورة فقط في ذاكرته وذاكرة الدولة من بعده، وستبقى لغزا آخر من الغاز كثيرة لا أمل في أن تفك في القريب. ولن يكون بمقدورنا أن نعرف إن كان الرئيس قد تعرض بالفعل لمحاولة تسميم، كما يروج الآن بقوة؟ أم أنه كان عرضة لمرض يمكن أن يصاب به أي إنسان آخر في سنه.

ومع أن المشكل لم يكن أبدا في أن يموت قائد السبسي يوما ما وهو على كرسي السلطة، أو أن يفارق الحياة وهو في عزلة عن الحكم وتقاعد طوعي منه عكس ما جرى لسلفيه الرئيس الراحل بورقيبة والمخلوع بن علي، بقدر ما كانت المعضلة الأكبر والأهم هي إن كان ذلك سيحصل بشكل عادي وطبيعي؟ أم أن وفاته وهو في ذلك الموقع ستكون بفعل فاعل، ونتيجة لعمل إجرامي قد يستهدف من خلال حياته تلك التجربة الديمقراطية الغضة؟

إن ما جرى في ذلك اليوم قوّى الشكوك والمخاوف من أن يخرج الصراع على السلطة من كل ضوابطه القانونية والأخلاقية، ويكون مطية أخرى لتدخل أطراف خارجية. فحتى إن سقطت هنا بعض الأرواح أو نزفت هناك بعض الدماء، فلن يفكر من يرغبون بالقفز للسلطة، في أن يحصل ذلك داخل القصر، أو أن يستشعر أحد أن ذلك كان ثمنا للوصول إليه، بل سيتم الأمر في مواضع وسياقات أخرى ستبدو مفصولة تماما عنه.

وكل ما قد يحتاجه هؤلاء الانقلابيون هو الكثير من المكر والقليل من السلاح والعنف، ولن يكون للرصاص أو للدبابات في نظرهم من معنى أو جدوى، ما دام أن تحقيق مرادهم قد يتم بالحد الأدنى فحسب، كأن يكون بعملية تسميم شبيهة إلى حد ما بما جرى للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، أو بتصنيع خبر وفبركة إشاعة تقول بأن الرئيس اختفى من الوجود وغاب مؤقتا أو نهائيا عن الساحة، وأن اختفاءه حصل قضاء وقدرا، لا دخل لبشر فيه لا من قريب ولا من بعيد.

ألم يكن مثل ذلك السيناريو تقريبا هو بعض ما جرى بشكل آو باخر ظهر الخميس الماضي في تونس، بتزامن مريب وغير بريء بالمرة، مع تعرضها لثلاث عمليات إرهابية ضربت قلب عاصمتها ومحطة إرسال تلفزيوني جنوبها؟ لقد كان مفتاح ذلك الانطباع هو بيان مصالح الرئاسة نفسها، الذي خرج ساعات قليلة بعد الإعلان عن تفجير انتحاريين نفسيهما في الشارع الرئيسي للعاصمة، وبالقرب من مقر أمني ليقول إن الرئيس «تعرض لوعكة صحية حادة استوجبت نقله إلى المستشفى العسكري بتونس»، ما فتح الباب واسعا لتفسيرات وتأويلات شتى.

فهل كان الأمر مرتبطا بالأحداث التي حصلت في ذلك اليوم ونتيجة مباشرة لها؟ أم أن الوعكة الصحية الحادة لم تكن لها علاقة بذلك على الإطلاق؟ وهل كان الرئيس أصلا على علم بما حصل في الساعات التي سبقت نقله للمستشفى؟ أم أنه لم يبلغ بها لأن حالته الصحية لم تسمح بذلك؟ إن ما يهم في كل الأحوال، أن توقيت الإعلان عن مرض الرئيس لم يكن موفقا بالمرة، بل كان بمثابة خطأ سياسي واتصالي فادح. فماذا كان يتوقع أو ينتظر من سعى لنشر البيان في مثل ذلك الظرف؟ هل كان يريد أن يطمئن التونسيين ويرفع من روحهم المعنوية؟ أم أنه أراد أن يدخلهم في دوامة اضطراب ويجعلهم قلقين على مصيرهم ومستقبلهم، وهم يرون كيف أصيب القائد الأعلى لجيشهم في عز تلك الهجمات التي شنها تنظيم «الدولة» ضدهم؟

سيكون من الضروري أن تستخلص دروس الخميس الدامي، وان يتعقب التونسيون بصمات من أطلق عليه الرئيس السابق المنصف المرزوقي محور الشر، حتى يفهموا القصة من كل جوانبها. فلم يكن من العبث أن تسارع قناة العربية بالذات للتأكيد على موت قائد السبسي، رغم أن محطات أخرى غير تونسية فعلت الأمر نفسه. فالجهود سيتم تكثيفها لدعم شخصية جديدة تحقق الهدف الأكبر، وهو الإطاحة بالإسلاميين وإقصاؤهم من السلطة وإجهاض التجربة التونسية ونسفها ولو كان ذلك بإشاعة الفوضى والرعب في الشارع، ولا نعرف الآن إن كانت هناك أسماء قد رشحتها أو وعدتها الإمارات وشركاؤها بخلافة الباجي واستثمار حالة الخوف والفراغ الدستوري، الذي حاولت أذرع إعلامية الإيحاء بوجوده، لكن المؤكد أن زوبعة إعلان الوفاة لم تكن إلا تعبيدا جانبيا لطريق الرئاسة لطرف جديد سيكون بديل الباجي في القصر. وما يخطط له هو انه بتغيير الأسماء لن يحل زيد مكان عمرو فقط بل سيستبدل خيار التوافق بنهج الصدام الأهلي .

ولن تكون هنا لحياة فرد أو موته قيمة إلا بالقدر الذي يكون فيه صالحا ونافعا في تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي. ولعل تلك هي العبرة الكبرى التي ينبغي على الجميع انصارا كانوا أو خصوما داخليين لقائد السبسي، أن يخرجوا بها وان ينتبهوا لها قبل أن يروا حزن الإماراتيين وغيرهم على من كانوا يعدونه صديقا لهم.

عن صحيفة القدس العربي اللندنية