حتى الآن؛ لم تعلن إدارة ترامب عن تفاصيل خطتها للسلام، والتي تُعرف إعلاميا بـ"صفقة القرن". لكن جوهرها بات واضحا أشد الوضوح، فهي تتحدث عن حكم ذاتي يتكفل بعبء السكان الفلسطينيين في مناطق تجمعاتهم في الضفة الغربية، مع تحسينات أخرى؛ أهمها التحسينات الاقتصادية.
وإذا تذكّرنا أن الحكم الذاتي قائم عمليا منذ أوسلو، وصار أكثر التزاما بكل متطلباته منذ 2004، حين جاءت القيادة الجديدة على أنقاض عرفات رحمه الله، فإن ما يتبقى عمليا هو أمران؛ الأول ما يتعلق بالتحسينات الاقتصادية، وهذه كانت مهمة توني بلير منذ 2004، قبل أن يتركها، فيما كان الجنرال "دايتون" هو الذي تولى الشق الأمني من الوضع الجديد، وصاغ جهازا أمنيا فلسطينيا عنوانه "الفلسطيني الجديد"، وفق تعبيره؛ لا يوجه بندقيته للعدو الصهيوني!!
حين نتفحص هذا الموقف، سنجد أن مشكلة عباس هي في التوقيع على هذه الخطة كحل نهائي، أو كـ"صفقة قرن" تستثني القدس بطبيعة الحال، في حين لم تكن لديه أية مشكلة في إيجاد حلول أخرى لقضية اللاجئين، هو الذي اعتبر القول بأنه يريد إغراق الكيان الصهيوني باللاجئين، ضربا من الدعاية التي تشوّه موقفه كما سمعه الناس يتحدث.
ولكن ماذا لو لم تكن "صفقة"، بل مجرد خطة لا تتطلب توقيعا من الأساس؟ هل سيقبلها عباس؟
الجواب قائم عمليا، فهو لا يتفاوض منذ بضعة عشر عاما، لكنه لم يغير قيد أنملة في سلوكه السياسي، إذ يواصل "تقديس" التعاون الأمني رغم قرارات صريحة من المجلس الوطني والمجلس المركزي، كما يواصل حربه على المقاومة، بينما لا يفعل شيئا على صعيد ما يسميه المقاومة الشعبية السلمية، إذ أنها مجرد شعار لا أكثر، بينما ينعم الصهاينة بالهدوء لولا بعض العمليات التي يقوم بها بعض الشبان بين حين وآخر، ولولا صمود المقدسيين، الذين لا توجّههم السلطة وقيادتها. ويحدث ذلك رغم أن العدو لم يتوقف في أي يوم عن الاعتقالات والقتل، ولا عن الاستيطان والتهويد.
المشكلة في جوهرها بالنسبة لعباس هي في التوقيع لا أكثر، وإذا ما تنازل القوم عنه، فإن العقدة ستحل، وسيكون بالإمكان تمرير خطة ترامب، أعني الخطة التجارية التي لقنها نتنياهو لكوشنر، ولن تلبث أن تظهر بعد قليل من الوقت.
يعيدنا هذا الكلام إلى البضاعة القديمة لنتنياهو وغيره في الساحة الصهيونية، ممثلا في الحديث عن "الحل الانتقالي"، أي الحل الذي لا يتطلب توقيعا، وإنما يكرّس وضع الحكم الذاتي القائم مع بعض التحسينات، وترك ما تسمى قضايا الوضع النهائي أي القدس واللاجئين إلى زمن آخر، وبذلك يتحوّل المؤقت إلى دائم بمرور الوقت. ومع موقف ترامب الجديد من القدس ومن "الأونروا" كرمز لقضية اللاجئين، يمكن القول إن القضية قد انتهت من دون الحاجة إلى التوقيع (تلك كانت فكرة شارون من 2000، وعلى أساسها انسحب من القطاع في 2005).
وإذا ما تم دمج هذه اللعبة مع ما كان يعرف بـ"الحل الإقليمي"، أي فتح أبواب التطبيع بين الكيان الصهيوني وبين الدول العربية، فإن تحويل المؤقت إلى دائم يصبح أمرا واقعا على نحو أكثر وضوحا، إذ ستنفتح أبواب العلاقات السياسية والاقتصادية على مصراعيها، ولا وجود بعد ذلك لصراع، إذا أنه مجرد نزاع حدودي لا أكثر، مثل الكثير من النزاعات الموجودة في العالم منذ عقود طويلة، وربما منذ قرون.
هذه هي الطريقة الفنية لتصفية القضية دون ضجيج، وحيث يمكن لعباس وقادة القبيلة أن يواصلوا الحديث عن الثوابت بين حين وآخر إذا لزم الأمر، ما لم يعترض البعض على ذلك، بناءً على أن ذلك سيخرّب أجواء التنمية التي تحتاج للهدوء والاستقرار!!
هذا هو الخطر الأكبر الذي ينتظرنا، أما أن أحدا سيجرؤ على التوقيع على صفقة تستثني القدس، فهذا غير وارد، لكن النتيجة تبقى واحدة راهنا، وربما مستقبلا ما لم تحدث تطورات مهمة في الإقليم.
في الحالتين (الصفقة أو الخطة)، سيتم الحديث عن إدخال الأردن على الخط عبر الضغوط، وذلك بربط سكان الضفة معه دون سيادة على الأرض، بما ينطوي على تكريس لفكرة الوطن البديل أو التوطين، وهو ما يرفضه الأردنيون والفلسطينيون بطبيعة الحال.
أما إفشال اللعبة قبل ذلك، فليس له سوى الشعب الفلسطيني الذي يمكن أن ينتفض ضدها بوصفها عملية بيع بلا توقيع. ويبقى الأمل الآخر ممثلا في أن يواصل ترامب ونتنياهو لعبة الغطرسة، ويصران على التوقيع، فتفشل اللعبة، وهذا سيظهر قريبا على كل حال (بعد رمضان كما وعدنا كوشنر)!!