يثير إصرار نتنياهو اللافت للنظر على المماطلة والتملص وعدم تنفيذ التفاهمات مع المقاومة الفلسطينية في غزة والتي كانت قد تمت برعاية مصرية أممية قطرية، وذلك على الرغم مما يشكله هذا الأمر من توتر وتصعيد مستمر وصل أحيانا لحد الهاوية أو المواجهة العسكرية الواسعة، يثير هذا الإصرار تساؤلا حول سياسة نتنياهو وماذا يريد بالضبط من غزة، هل فعلا يريد اتفاق تهدئة؟ أم أنه يريد تهدئة مجانية تقبل بالحصار؟ أم أنه يفضل الوضع الحالي والقائم على حلقة مفرغة من التفاوض ثم التفاهم ثم التراجع ثم التصعيد ثم التفاوض وهكذا...، وقد يتخلل الأمر بعض التنفيذ الفعلي لبعض البنود البسيطة لضمان دوران هذه الحلقة المفرغة.
من الواضح أن نتنياهو لا يريد التهدئة مع غزة أو الاتفاق مع فصائل المقاومة (الإرهابية) بنظره، وفي نفس الوقت هو لا يريد حرب باهظة الثمن معها، لذلك اختار على ما يبدو ودونما إعلان عن ذلك خياره تجاه غزة والقائم على استمرار الوضع الحالي، والذي يعني أيضا إبقاء غزة (كالمعلقة) دونما اتفاق أو حرب، وقد ساعده على ذلك الظروف الإقليمية والفلسطينية الداخلية.
لا يعني ما سبق أن نتنياهو لا يفضل بل يتمنى سقوط سلطة حماس والمقاومة في غزة، واستبدالها بسلطة "معتدلة" تقوم بنقل تجربة (التنسيق الأمني المقدس) "الرائدة" دونما أي أفق سياسي معلوم، وقد يعطي من أجل ذلك الفرصة تلو الأخرى لمن يريد ويصر أن يجرب حظه العاثر في هذا المجال كالسماح بل والتعاون في حياكة المؤامرات والانقلابات على شكل عمليات تخريبية حينا واحتجاجات اجتماعية حينا آخر، أما نتنياهو وأجهزته الأمنية فيعلمان "علم اليقين" أن احتمالية نجاح ذلك ضئيلة جدا، وفي كل الأحوال فلن يقوم هو أو دولته وجيشه بدفع ثمن ذلك الباهظ لسواد عيون هذا "العنصر المعتدل" أو تلك السلطة المتعاونة.
من المتوقع أن يوافق نتنياهو خلال الأيام القادمة على تفاهمات جديدة، أو تطبيق جزئي لبعض التفاهمات السابقة "كجزرة" تضمن له تهدئة نسبية لتمرير انتخابات الكنيست في إسرائيل، ثم ليعود بعدها لسياسة المماطلة أو الحلقة المفرغة أو سياسة التعليق.
وفي مقابل هذا فمن الواضح أن المقاومة الفلسطينية في القطاع تعي هذه المعادلة الحرجة بشكل جيد، لكنها مضطرة للتعامل معها على قاعدة التمسك بخيار المقاومة والحفاظ على مصالح وحقوق وثوابت الشعب الفلسطيني، وذلك في ظل ضعف أو حتى انعدام خيارات أخرى في هذه المرحلة على الأقل، ومن المرجح أيضا أن تنجح المقاومة في صمودها وثباتها رغم هذه المعادلة الصعبة بسبب الدعم والتأييد الشعبي الواسع لها في غزة وسائر أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، كما ظهر جليا في التحركات الشعبية المساندة لها، كرد على احتجاجات "بدنا نعيش" في غزة وذلك لحظة ظهور نوايا سياسية انقسامية من هذا الحراك.
كيف يمكن لمعادلة نتنياهو أن تنكسر أو تتغير، قد يحدث ذلك في حالات ثلاث:
الأولى، امتلاك المقاومة لقدرات عسكرية جديدة تكسر بعض توازنات القوى، وتجبر الاحتلال على التعاطي بصورة أكثر جدية على الأقل مع بعض مطالب الشعب الفلسطيني في غزة.
أما الحالة الثانية، فهي تحقيق مصالحة وطنية حقيقية توحد جهود الشعب الفلسطيني وتعزز من قدراته على إسقاط بعض جدران الحصار والاحتلال، ويبدو هذا الأمر بعيد المنال، وعلى الأقل في عهد الرئيس أبو مازن ذي المواقف المتشددة وصاحب رؤية المصالحة على أساس الخضوع والتمكن من الآخر، لا على أساس الشراكة الوطنية الحقيقية.
أما الحالة الثالثة، فهي حدوث تغير في الإقليم يسمح بزيادة الضغط على إسرائيل للتنازل لصالح القضية الفلسطينية بشكل عام ومسألة غزة بشكل خاص، وعلى الأقل يسمح بوقف التعاون والهرولة نحو التطبيع معها.
وحتى حصول إحدى هذه الحالات ستبقى غزة تواجه بصبر واقتدار وبمعاناة واصطبار حالة الوضع القائم الصعبة.