"العروس جميلة، لكنها متزوجة من رجل آخر". العروس هي فلسطين، والرجل الآخر هو الشعب الفلسطيني. هكذا لخّص الفيلسوف الصهيوني، أشير غرينتسبرغ، (المعروف باسمه الأدبي "إحاد هعام"، الذي يعني "أحدهم").
كان ذلك عندما أوفد حاخام العاصمة النمساوية، فيينا، إحاد هعام إلى فلسطين، لاستطلاع الوضع على الطبيعة، سنة 1897، وهي سنة انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا.
ما زالت "العروس" جميلة، بل أجمل بكثير مما كانت عليه. ما زالت "العروس" متزوجة من "رجل آخر".. صحيح أنه يعاني من أوجاع وأمراض ولكنه حي، يغيّبه أعداؤه عن الوعي بين حين وحين، بقوتهم العسكرية والمالية والإعلامية، وبمساعدة عباءات وتيجان بعض ذوي القربى، ولكنه يستعيد وعيه ويفيق وينطلق، وما زالت "العروس" زوجته الشرعية الوحيدة، ولم تنجح كل محاولات الحركة الصهيونية، على مدى مئة واثنتين وعشرين سنة عجاف، من تحويل "العروس" إلى طليقة، ولا تحويلها إلى أرملة، فما زال الشعب الفلسطيني حيّا يقاوم، ويقاتل، ويدافع،.. يرفض ويقبل وفقا لمصالحه الوطنية والقومية والإنسانية.
نشهد اليوم، الخميس، في العاصمة البولندية، وارسو، اختتام "حفل" تزويج وهمي لـ"العريس الواهم" بنيامين نتنياهو: العريس قابل، والبطريرك/الحاخام، نائب الرئيس الأمريكي، مايك بينس، يثبّت قلنسوته/قبّعته، وربما لفّته أيضا، ليتمم مراسم شرعنة العرس، وفق أصول "دينه" ومعتقداته، وإشبين العريس، وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، يضبط الوردة على طرف ياقته، وبعضٌ من أبناء عمومة "العروس".. بعباءاتهم المذهّبة، يرقصون فرحا أو شماتة بغباء، أو اضطرارا على استحياء؛ وأما مَن حضر مِن المدعوين، (وهم قلّة على أية حال)، فيتابعون بعضهم بقلق وبعضهم بقرف، ولكنهم صامتون.
تبدو في الشكل وكأنها "حفلة عرس" مكتملة الأوصاف.. لولا عيب "بسيط": "العروس" رافضة.. أبوها وأمها رافضان.. إخوتها وأخواتها وجموع أبناء وبنات أعمامها رافضون. أكثر من كل ذلك: "العروس" لم تحضر "حفل" عرسها، فتحول العرس بذلك إلى حفل وهمي، بعريس وكاهن وإشبين واهمين.
"حلف وارسو" السابق، وُلِد قويا لمواجهة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وصمد من سنة 1955 لغاية سنة 1991، حيث انهار مع انهيار الاتحاد السوفييتي.
"حلف بغداد" السابق، (كان وليد فكرة أمريكية، حيث دعت أمريكا لعقده ووعدت بدعمه عسكريا واقتصاديا، ولم تكن عضوا فيه. تم عقده، وترأّسته بريطانيا، وضم في عضويته تركيا (أيام عدنان مندريس)، وإيران (أيام الشاه محمد رضى بهلوي) والباكستان، والعراق طبعا (أيام الملكية وحكومة نوري السعيد)، ولد سنة 1955، كان ضعيفا منذ يوم ميلاده، وكان موجها في حقيقته لمحاصرة وتخريب التوجه القومي العربي نحو التحرر الحقيقي والوحدة، بقيادة الزعيم العربي الخالد، جمال عبد الناصر، وانهار الحلف، عمليا، يوم انطلاق الثورة العراقية، بزعامة عبد الكريم قاسم، والتي أطاحت بالملكية وبنوري السعيد، وبـ "حلف بغداد" طبعا، يوم 14 تموز/يوليو 1958، لكن القيّمين على "الحلف" استصعبوا الاعتراف بموته، وتفتقت في أذهانهم فكرة إبقائه على قيد الحياة اصطناعيا، فغيّروا اسمه من "حلف بغداد" إلى "منظمة المعاهدة المركزية" أو "السنتو"، بالأحرف الأولى من الاسم الجديد بالانكليزية، وظل مشلولا إلى أن مات سنة 1979.
"حلف وارسو" الجديد الحالي، والذي يختتم أعمال لقائه الأول اليوم، لم يولد قويا، ولم يولد ضعيفا.. لقد وُلِدَ ميتاً، غير مأسوف عليه.
هدف حلف وارسو الواضح والمعلن هو "اختراع" عدو جديد للأمة العربية، هو إيران، بديلا عن العدو الحقيقي الواضح والملموس الذي يحتل ويستعمر فلسطين، ويستعمر هضبة الجولان السورية، ومواقع في جنوب لبنان، ويبتز الأردن تحت غطاء استئجار أراض زراعية، وتهديدات شبه علنية تحذيرا من عواقب إن هي ألغت عقود الإيجار هذه.
قد نختلف مع تركيا أو إيران أو إثيوبيا أو مالي، أو أي بلد جار لهذه الدولة العربية أو تلك. لكن لا يمكن لأي وطني عربي، ولأي قومي عربي، ولأي عاقل عربي، أن يرى في هذه الدول والشعوب في المنطقة عدوا للأمة العربية. خانة العدو مقصورة على إسرائيل.. تتربع فيها باحتلالها واستعمارها لفلسطين، وبالتنكيل بشعبها، وتقطيع ترابطه، وتزوير تاريخه، وتحطيم واقعه، والتآمر على مستقبله، بل وعلى وجوده أيضا.
هل ينقصنا بعد كل هذا، البحث عن مكبِّرات نحملها إلى وارسو لتعيننا على "اكتشاف" أعداء وهميين؟.
قد يكون أيٍّ من هؤلاء الجيران منافسا، أو حتى طامعا بخيرات عربية، لا بد من التنبه لخطواته وسياساته وأفعاله، لكن السياسة الحكيمة هي أن يبقى الهدف الأول هو الوصول إلى معادلات تحفظ الحقوق والمصالح العربية، ومتابعة البحث عن طرق، بل ومسارب حتى، توصل إلى حلول تحفظ هذه الحقوق والمصالح.
يسمونه في إسرائيل وأمريكا "مؤتمرا دوليا". كيف يكون "دوليا" وتغيب عنه روسيا والصين، ولا يحضره وزراء خارجية فرنسا وألمانيا، وتقاطعه مسؤولة العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي؟.
إنه ليس أكثر من عرس بلا عروس، حتى وإن كان نتنياهو يتمختر فيه مثل طاووس أرعن، عينه على صُوَر تظهره يصافح هذا أو ذاك من مسؤولين عرب، يستعين بها لتسويق نفسه وحزبه اليميني العنصري، عشية الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، وقبيل مثوله للمحاكمة بتهم الفساد العديدة.
إن رفض فلسطين المعلن، الرضوخ للعدوان والبطش والظلم والاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، ورفع راية "لا" صريحة واضحة في وجه القوة الأولى عسكريا واقتصاديا في العالم، هو الخطوة الضرورية الأولى للحفاظ على المصالح الوطنية الفلسطينية، والمصالح القومية العربية، لكنها فقط كذلك، فقط "خطوة أولى" لا بديل عن تدعيمها بخطوات ايجابية كبيرة واثقة ومستمرة، لتكون مسيرة حقيقية نحو التحرر والاستقلال.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية