«تمنيات وليست حقائق، العدو الصهيوني في أوج قوته والعرب والفلسطينيون منقسمون على أنفسهم يطبعون مع إسرائيل ويقاطعون بعضهم بعضا، كم اتمنى أن يكون كلامك صحيحا». هذا هو تعليق قارئ ليبي مشكورا تعقيبا على مقال الأسبوع الماضي «إسرائيل تعيش آخر أيام عصرها الذهبي».
تعكس كلمات هذ القارئ الصادقة النابعة من القلب، حرقة في نفسه وحالة من الإحباط من الوضع العربي المتردي، وأشاركه أحاسيسه هذه والحسرة التي يشعر بها. وأقول للأخ القارئ الذي من المؤكد أنه يمثل قطاعا كبيرا من القراء بشكل خاص، والناس عموما، إن التفاؤل والتمنيات مطلوبة في زمن الانحطاط العربي، ويجب ألا نستسلم للإحباط واليأس فهذا هو هدف القوى المعادية. وما تحدثت عنه في المقال السابق لم يكن مجرد أضغاث أحلام، بل يرتكز على حقائق ووقائع، ولكن عندما نتحدث عن أيام، فلا نعني بها المعنى الحرفي للكلمة بل مجازا.
من كان في الماضي غير البعيد يتفوه بكلمة ضد إسرائيل كانت الدنيا تقوم ولا تقعد، والآن هناك ما يسمى بلجان التضامن مع الشعب الفلسطيني في كل مكان، وأيضا حركة المقاطعة «BDS» التي حققت إنجازات ونجاحات على مدى سنواتها القليلة، كمّا ونوعا، ولن يكون أولها ولا آخرها قرار البنك البريطاني«HSBC»، وهو كما ذكرنا سابع أكبر مؤسسة مالية في العالم، بسحب استثماراته من شركة «إلبت» لتصنيع السلاح، خصوصا الطائرات من غير طيار. ومن إنجازات «BDS» الأخيرة إلحاقها خسائر فادحة بإسرائيل في العام الأخير. وحسب صحيفة «هآرتس» فإن حركة المقاطعة تسببت بخسائر كبيرة لمهرجان «ميتيئور» (نيزك) الذي نظم بداية أيلول/سبتمبر الماضي في «كيبوتس لهفوات هبشان» في الجليل الأعلى، وصل حد عدم دفع أجور لعشرات الفنانين والعاملين في المسرح، إضافة إلى احتمال إعلان إفلاس الشركة المنظمة للمهرجان.
حركة المقاطعة باتت تفرض نفسها ليس في بريطانيا فحسب، بل في أمريكا وكندا وأستراليا ودول الاتحاد الأوروبي وحتى جنوب أفريقيا، وهذا إنجاز كبير وكبير جدا، ويجب ألا نقلل من شأنه أو تصغيره، بل علينا إبرازه وتأكيد أهميته والبناء عليه.
من منا كان يحلم أن يفشل مشروع قرار لصالح إسرائيل في الكونغرس الأمريكي ـ قلعة الصهيونية ـ إلى فترة قريبة. لقد تلقت إسرائيل وأنصارها، ضربة موجعة في الصميم بفشل مشروع قانون لفرض عقوبات على أي امريكي يقاطع الاحتلال، ويتبنى سياسة «BDS»، تقدم به الجمهوريون، وهو المشروع الأول في الكونغرس الجديد، فشل المشروع في الحصول على 60 صوتا. وهذا يعني أن هناك وعيا أمريكيا جديدا تجاه الجرائم الإسرائيلية، وكذلك معايير جديدة في السياسة الأمريكية في ما يخص الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية خصوصا. ومن منا كان يحلم يوما أن يشاهد أمريكية من أصول فلسطينية وهي رشيدة طليب، تقف في عقر دار اللوبيات اليهودية في الكونغرس الأمريكي، ليست زائرة بل عضوا منتخبا ديمقراطيا؟ من كان يحلم أن يرى فلسطينية، وليس أي فلسطينية، بل فلسطينية ملتزمة بقضيتها وفخورة بأصولها وحضارتها وتاريخها وثقافتها، وهي تقف مرفوعة الرأس ومنصوبة القامة وسط الكونغرس بثوبها الفلسطيني المطرز بألوانه الزاهية، الذي تحاول إسرائيل سرقته، وهي تحلف اليمين وإلى جانبها زعيمة الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس نانسي بيلوسي، كعضو جديد في قلعة الصهيونية؟
ففي أسبوعها الأول في الكونغرس، وربما انتقاما منه لأفعاله ضد الفلسطينيين تعهدت طليب بالعمل على إسقاط ترامب، وفي الأسبوع نفسه غردت قبيل طرح مشروع القانون السالف الذكر بالقول، إن النواب الذين يؤيدون مشروع قرار يحمي الولايات الأمريكية التي تعاقب مقاطعي إسرائيل، «نسوا أي بلد يمثلون». إذا كان هذا لا يعد انتصارا حقيقيا فما هو الانتصار إذن؟ وهناك أيضا الشابة الصومالية الأصل إلهان عمر التي فازت أيضا بعضوية الكونغرس، وهي الشابة التي لم تتردد في الإعلان عن تأييدها لـ«BDS». ولا بد أن نذكر أيضا الشابة أليكساندرا كورتيز من أصول إسبانية وهي اصغر عضو في تاريخ الكونغرس، التي حققت فوزا كبيرا في نيويورك وهزمت أحد عتاولة الديمقراطيين على هذا المقعد ببرنامج سياسي واضح، ووصفها قتل نحو 60 فلسطينيا على حدود غزة في14 مايو/أيار الماضي «الاثنين الأسود» بالمجزرة.
ما كانت لهذه التطورات أن تحدث لو لم يكن هناك تغيير في الموقف على الصعيد العالمي من دولة الاحتلال، التي لم تعد خطا أحمر بالنسبة لشعوب العالم.
نعم إسرائيل تفشل وسياساتها تفشل رغم الدعم المفضوح من الإدارة الصهيونية في البيت الأبيض، والإجراءات التي لم يتجرأ على اتخاذها أي رئيس أمريكي منذ احتلال عام 1967، في تناقض تام مع القوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، من الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة إليها. وبالمناسبة لم يقدم على هذه الخطوة سوى دولة أو دولتين صغيرتين، رغم الضغوط الأمريكية وبلطجة ترامب وممثلته في الأمم المتحدة نيكي هيلي سيئة الذكر، وغير المأسوف على مغادرتها لهذا المنصب، بتهديد الأعضاء إن هم لم يصوتوا إلى جانب إسرائيل، وهذا أيضا إنجاز كبير وكبير جدا.
صحيح أن هناك من يمكن أن يقول إن هذه أقوال لا أفعال، أقوال لا تسمن ولا تغني من جوع، ونحن بحاجة إلى الأفعال بعد أن طفح الكيل من الأقوال، ولكن كل شيء يبدأ بالقول قبل أن يصبح واقعا وأفعالا على الأرض، هذا بالطبع يحتاج إلى الصبر والفعل ومواظبة العمل منا أولا، ببناء قدراتنا الذاتية وتحسين أدائنا واحترام قراراتنا وتنفيذها وتحديد أساليب النضال ضد الاحتلال وقطعان مستوطنيه، لكسب المصداقية أمام أنفسنا أولا وشعبنا ثانيا والعالم ثالثا. وعندما تكسب الرأي العالمي بإقناعه بأن إسرائيل دولة ليست محتلة فحسب بل دولة فصل عنصري (أبرتهايد)، تماما كما كانت زيمبابوي (روديسيا عندما كان يحكمها البيض) وجنوب أفريقيا لغاية مطلع التسعينيات، هذا أيضا إنجاز. وعندما تحاصر إسرائيل شعبيا عبر الانتصارات التي تحققها حركة المقاطعة ولجان التضامن، وقبل هذا وذاك صمود شعبنا على أرضه ومقاومته المتواصلة بكل السبل المتاحة للاحتلال والاستيطان، وإن كانت هذه الانتصارات تبدو للبعض منا هامشية، مقابل جبروت دولة الاحتلال وآلتها العسكرية واقتصادها القوي، ولكنها إنجاز حقيقة.
وأخيرا صراعنا مع العدو طويل رغم محاولات إيهامنا في مرحلة ما أن الصراع على وشك الانتهاء. ومن هذا المنطلق نحن بحاجة إلى هذه الانتصارات التراكمية، كما نحن بحاجة إلى جيل الشباب الذي تمثله طليب وعمر وكورتيز وغيرهن، فهن يمثلن الجيل الصاعد وجيل المستقبل في الولايات المتحدة الذي بدأ يتحرر من قيود النفوذ الصهيوني ويتجه نحو تفهم مدى الظلم الذي يحل بالفلسطينيين، ويتخذ مواقف مغايرة لمواقف الحرس القديم، إزاء قضيتهم. إنه الجيل الذي سيحكم لاحقا. ما يتحقق هو انتصارات ليست معنوية فحسب، بل سياسية ذات أبعاد مستقبلية وانتصارات تراكمية، خاصة بعد فشل إسرائيل ومن وراءها وعلى مدى أكثر من قرن من الزمن عاما تحقيق الانتصار على الشعب الفلسطيني، بالضربة القاضية.
واختتم بالقول إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، كما قال الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ، ولكننا قطعنا شوطا وخطوات عديدة من هذا الميل وليس فقط خطوة واحدة، وما قد يبدو صغيرا في ظل السواد الحالك الذي يحيط بنا الآن، إنما هو كبير وفي غاية الأهمية ولا بد من البناء عليه، لا حياة بلا أمل ولا حياة بلا أحلام وأمنيات.
عن صحيفة القدس العربي