إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، لم تكتفِ الولاياتُ المتحدة الأمريكية
بغزو أفغانستان وإسقاط حكم الطالبان بذريعة إيواء بن لادن ودعمه، بل بيّتت النيّة
أيضا لغزو العراق والإطاحة بصدّام حسين الذي أطلق 39 صاروخا على الكيان الصهيوني
في جانفي 1991، وبما أن ذريعة دعم "القاعدة" لم تكن مقبولة دوليا، فقد
افتعلت أمريكا أكذوبة امتلاك نظام صدام أسلحة دمارٍ شامل، وأوعزت إلى المخابرات
المركزية "سي آي إي" بافتعال الأدلة، وتابع العالمُ كله كيف قام وزير
الخارجية آنذاك كولن باول باستعراض صور مفبْرَكة لشاحناتٍ متنقلة قال إن أسلحةً
كيميائية وبيولوجية تُصنَّع داخلها.. وبناءً عليها، قام الجيشُ الأمريكي بغزو
العراق في مارس 2003 وإسقاط نظام صدام والقبض عليه وتقديمه إلى حبل المشنقة، فضلا
عن قتل مئات آلاف العراقيين وخلق فتنة طائفية كبيرة لا تزال العراق تعاني
تداعياتها إلى الآن، وقد يتبيّن للعالم كله بعد فوات الأوان زيفُ أدلة "سي آي
إي" عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة.
اليوم،
اختلف الوضعُ تماما مع جريمة قتل خاشقجي، لأنَّ الأمر يتعلق هذه المرة بحليفٍ
مستعدّ لدفع مئات ملايير الدولارات لأمريكا على شكل استثمارات وصفقات سلاح،
والاستجابة لطلبات ترامب بتخفيض أسعار النفط إلى أدنى المستويات ولو على حساب
اقتصاده نفسِه، والمساهمة في حصار إيران، وقيادة دول الخليج إلى التطبيع العلني مع
الاحتلال والتحالف معه في آفاق 2019، والانخراط في "صفقة القرن"
الأمريكية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية من دون أيّ اكتراث بضياع القدس
وقبلة المسلمين الأولى… لذلك كله لم يأبه ترامب بتقرير "سي آي إي" الذي
يؤكّد ضلوع وليّ العهد السعودي في جريمة قتل خاشقجي، ومال إلى التشكيك في التقرير
الذي يستند إلى تسجيلاتٍ دامغة، بل إنه أكّد ضمنيا أنه حتى لو ثبُت تورّط القيادة
السعودية في الجريمة، فإنه غير مستعدّ لإقرار أيّ عقوباتٍ ضدّها حفاظا على مصالح
أمريكا ومصالح الكيان الصهيوني، ألم يقُل قبل أيام قليلة إنه "لولا السعودية
لكانت إسرائيل في ورطةٍ كبيرة"؟!
ومعنى
هذا أن الولايات المتحدة التي طالما تشدّقت بالديمقراطية ومكافحة الديكتاتوريات
ونصرة حقوق الإنسان، وكان ذلك إحدى ذرائعها في غزو العراق وإسقاط "ديكتاتوره"
في مارس 2003، تكيل بمكيالين في المسألة نفسها؛ فإذا تعلّق الأمرُ بنظامٍ استبدادي
يناوئ الكيان الصهيوني ويدعم فلسطين، عادتْهُ وحاصرته وسعت بكل السبل إلى إسقاطه
ولو بالغزو العسكري المباشر، أما إذا تعلّق بنظام استبدادي آخر يخدم المصالح
الأمريكية والصهيونية، فإن أمريكا مستعدّة للتغاضي عن جرائمه وانتهاكاته لحقوق الإنسان
وتنكيله بمعارضيه، وإنقاذه بأي وسيلة من السقوط، ولتذهب مبادئ حقوق الإنسان
والديمقراطية والحريات إلى الجحيم!
كان
يمكن أن يكون قتلُ خاشقجي بداية عهدٍ جديد في السعودية تسقط فيه رؤوسٌ كبيرة
وتتوقف فيه المملكة عن قمع المعارضين، من دعاةٍ وحقوقيين ومثقفين، وسجنِهم بلا
محاكمات، لكن تصرّف ترامب يمنح ضمنيا الضوءَ الأخضر لبن سلمان لمواصلة التنكيل
بمعارضيه بلا حسيب أو رقيب.. ما يعني أن المملكة مقبلة للأسف على مرحلةٍ أكثر
سوادا وقتامة من القمع والاضطهاد وكبت الأنفاس.
عن صحيفة الشروق الجزائرية