كثيرون في العالم العربي وقعوا ضاحكين عندما ذكرت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هيلي أن الدول العربية الغنية مقصرة بمساعدة إخوانهم الفلسطينيين!
كان مما قالته: "قدّمت الولايات المتحدة مبلغ 364 مليون دولار للأونروا و 300 مليون دولار أخرى من المساعدات الثنائية في العام الماضي"، وأضافت أن بلادها قدّمت 6 مليارات دولار للفلسطينيين، وفي وصلة من الثناء على الذات وصفت الشعب الأمريكي بأنه سخي وإنساني للغاية، وزعمت أن الإدارة الأمريكية الحالية، كانت تبحث عن طرق لمساعدة الشعب الفلسطيني، مشددة أن "محنته تثير قلقنا الحقيقي"!
وفي تحذير ممزوج بالمّن والأذى، قالت إن على الفلسطينيين أن يفهموا أنّ الأميركيين ليسوا حمقى، وأنّ عليهم ألا يعضّوا اليد السخية التي تطعمهم!
علاوة على ذلك، دعت الآخرين إلى مد أيديهم بالمساعدة كذلك، وهؤلاء "الآخرون" الذين أشارت إليهم هيلي هم -في الحقيقة- حلفاء أمريكا، من بينهم ملوك العرب في الخليج وحكام أمثال عبد الفتاح السيسي في مصر، وفي سياق متصل، أشار سفير المملكة العربية السعودية أن الرياض أنفقت أكثر من 6 مليارات دولار كمساعدات إنسانية للفلسطينيين خلال العقد الماضي وحده.
السؤال المطروح؛ لماذا كانت هيلي بهذا القدر من العدوانية في خطابها؟! قد تبدو مهاجمة الآخرين بمثابة ستار دخان لتغطية قطع الدعم الأمريكي عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"؛ وفي هذا تكرار لأزمة ترامب حول سخاء الولايات المتحدة، وأن حلفاءها "العرب" يستغلون سخاءها ولا يدفعون الحصة التي عليهم!
يعتقد ترامب أنه زعيم استثنائي وصانع صفقات مميز سيعمل على حل "المشكلة الفلسطينية" بشكل دائم، وقد سمعنا منذ حوالي عامين عن "صفقة القرن"، لكن التفاصيل لم يتم الكشف عنها رسميًا حتى الآن، ومن الواضح من الأحداث على الأرض، أنّ واشنطن تبنت موقف اليمين الإسرائيلي المتطرف، ولا تريد -في الحقيقة- أية صفقة بل تعمل على فرض إملاءات من خلال تغيير الوضع الراهن أكثر فأكثر لصالح إسرائيل، والويل للفلسطينيين أو أي جهة أخرى قد تفكر بالاعتراض.
من وجهة النظر الأمريكية، فإن العقبة الرئيسية التي تقف أمام هذه "الصفقة" -التي تهدف لتصفية القضية الفلسطينية- هي قضية اللاجئين، وللتغلب عليها، يبدو أنّ فريق ترامب لديه خطة إسرائيلية في كل شيء ما عدا الأسم، أهم ملامحها إعادة تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني، في تجاهل تام للقانون الدولي، وقد أعلنوا قبل أيام أن اللاجئ الفلسطيني هو الذي غادر فلسطين عام 1948 وليس أبناءه!، مما خفض عدد اللاجئين من حوالي 5 ملايين لاجئ إلى 40 ألف لاجئ، هم كبار السن.
الخطوة الأخرى هي اتهام واشنطن للأونروا بتحويل قضية اللاجئين الفلسطينيين من مشكلة مؤقتة إلى مشكلة دائمة، وبالتالي فإنّ الوكالة الدولية نفسها جزء من هذه المشكلة، من أجل تبرير قطع المساعدات اللازمة لاستمرار الأونروا، ثم تابعت إدارة ترامب ضربها للمؤسسة من خلال تقويض مصداقيتها باتهام موظفيها بسوء إدارة الموارد.
تهدد أزمة التمويل التي تواجهها الأونروا جميع الخدمات الحيوية التي تقدم لملايين اللاجئين في المخيمات، أكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة أم الدول المجاورة، وهذا أمر خطير للغاية، إذ تدير الأونروا مئات المدارس في مناطق عملها الخمسة، وتوفر التعليم الأساسي المجاني لنحو نصف مليون لاجئ فلسطيني، نصفهم من الفتيات، كما تدير الوكالة 143 مرفقاً للصحة الأولية، تتلقى نحو تسعة ملايين زيارة سنوية، مع تقديم مساعدات مالية للاجئين الفلسطينيين الأشد فقراً، يعيش حوالي 1.2 مليون منهم في فقر مدقع، وعلاوة على ذلك، تدير الأونروا 48 مركزاً للمرأة، و33 مركزاً لإعادة التأهيل المجتمعي، و43 برنامجاً تديرها المجتمعات المحلية، يعيش فيها حوالي ثلث اللاجئين الفلسطينيين في 58 مخيماً في كل من الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة.
بالإضافة إلى ما سبق، تقوم الأونروا بصيانة وتحديث وحفظ سجلات اللاجئين الفلسطينيين، والتي تتضمن أكثر من 17 مليون وثيقة، بما في ذلك شهادات الميلاد، وسندات الملكية ووثائق التسجيل في فلسطين، وبعضها يعود إلى ما قبل 1948، وتم حفظها وأرشفتها بعد مسحها ضوئيّاً.
مشكلة إغلاق الأونروا -كما تريد الولايات المتحدة وإسرائيل- أنّ عبء تقديم الخدمات سيتم إلقاؤه على الدول المضيفة مثل الأردن ولبنان وسوريا، ولذا فإنّ واشنطن تسعى للحصول على مساعدة مالية من الدول العربية الرئيسية، خاصة السعودية والإمارات، تقدرها بعض المصادر بمليارات الدولارات إن لم تكن تريليونات، لتمويل هذا التحول وتغطية تكلفة استيعاب اللاجئين الفلسطينيين كمواطنين في الدول المضيفة، سيتم على أساسها بناء البنية التحتية اللازمة لتلبية احتياجاتهم، لكن هذه الدول التي أشارت إليها هيلي في خطابها مترددة في الدفع، وهو ما يفسر غضبها.
أما بالنسبة للفلسطينيين الذين يعيشون داخل "فلسطين التاريخية" -الضفة الغربية وقطاع غزة والأرض التي استولت عليها إسرائيل عام 1948- فسيتم تطبيق سياسة التهجير التدريجي وطوعي، حيث سيكون الخيار بين أمرين اثنين؛ فإما أن يغادروا فيه موطنهم، أو أن يتم اقتيادهم مثل الماشية إلى مناطق مغلقة، ذات ظروف لا تطاق، المقصود منها دفع الفلسطينيين إلى الهجرة "طواعية" من أجل البحث عن حياة أفضل.
مع تمكن إسرائيل من قضم الضفة الغربية والقدس بشكل تدريجي وبناء المستوطنات غير الشرعية وسلب الأراضي المخصصة "لدولة فلسطين المستقلة"، لن يتبقى للفلسطينيين أرض يقيموا عليها دولتهم، قابلة للاستمرار، لذا فإن من المتوقع أن يتم نقل ما تبقى من الفلسطينيين إلى الأردن.
أما بالنسبة لغزة، فستواجه ضغوطاً شديدة لمبادلة الأمن وتوفير سبل العيش اللائق والآمن لإسرائيل، ولن يكون من الصعب بناء منشآت كمطار وميناء بحري ومنطقة حرة وأخرى صناعية في مصر، لاستخدامها من قبل الفلسطينيين في قطاع غزة.
ماذا عن حل الدولتين؟، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال مؤخراً إن ترامب يدعم فكرة السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الأراضي، وأغلب القادة الإسرائيليين يؤيدون نتنياهو ويشددون منذ عقود بأنهم لن يسمحوا بأي سيادة غير إسرائيلية على الأرض الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، وبالطبع لا يهم إن كان الفلسطينيون وباقي دول العالم سيسمّونها "الدولة الفلسطينية" أم لا..، لكن بالتأكيد ستكون كلها خاضعة لـ "إسرائيل".
هكذا تبدو نظرة ترامب إلى "صفقة القرن"، ليست صفقة على الإطلاق بالنسبة للفلسطينيين، ولكن استسلام كامل للرؤية الإسرائيلية وللإدارة الأمريكية، فالتخلص من اللاجئين الفلسطينيين هو المرحلة الأولى لإلغاء حقهم المشروع في العودة إلى أرضهم، وستكتب نهاية "دولة فلسطين" قبل أن تظهر للوجود.
* المقال مترجم لـ"عربي21" موقع ميدل إيست مونيتر