لم يظن كثير من الفرنسيين أن تسريب َجريدة "لوموند" الشهيرة "فيديو"، يُظهر الشاب "الكسندر بنعلا" Alexandre Benalla وهو يقوم بتعنيف شابين في تظاهرة عيد العمال الأخير فاتح أيار/ مايو 2018، سيحظى بكل هذا الاهتمام، وسيتحول إلى "قضية دولة"، بعدما كان يُظن أنه مجرد خطأ قضائي عابر.
والحقيقة أن الحدث أثار سلسلة غير متناهية من النقاشات على منصات التواصل الاجتماعي، وعبر وسائل الإعلام الفرنسية المكتوبة والمسموعة والمرئية، وخلق دينامية بداخل مؤسسات الدولة، وتحديداً البرلمان، كما حفّز المتابعين وصناع الرأي العام على إثارة قضايا من طبيعة قانونية وسياسية، ولا يُعرف في الزمن المنظور كيف ستؤول تطورات هذا الملف.
أثارت قضية " الكسندر بنعلا" تساؤلات كثيرة حول تعدد أجهزة الأمن في فرنسا، وعن مدى تكاملها أو استقلالها، وهل يحق لرئيس الدولة امتلاك أمنه الخاص، التابع له دون سواه؟ أم يجب أن يكون تحت وصاية وزارة الداخلية ومسؤولا أمامها، وأمام أجهزة القضاء؟
بطلُ هذه القضية هو الشاب الكسندر بنعلا، البالغ من السن 26 عاماً، ذو الأصول المغربية، والمولود في حي شعبي بـ "Evreux"، الحاصل على الإجازة في القانون، والذي تدرج في سلم الخدمات الأمنية، أولا ضمن "الشبيبة الاشتراكية"، وبالتتابع بالقرب من شخصيات سامية في هرم الدولة، إلى أن وصل إلى الحزام الأول من الطاقم الأمني للرئيس "ماكرون"، كمساعد لرئيس مكتب ديوانه Francois – Xavier Lauch. أما خصاله كشاب طموح، فالكل يُجمع على قوته الجسدية، وطابعه الخدوم والكتوم، وحرصه على التفاني في خدمة رؤسائه، حصل هذا مع الزعيم الاشتراكي "فرانسوا هولاند" حين كان ضمن الطاقم الأمني لحملته الانتخابية، أو مع "Martine Aubry"، وأيضا مع الوزير Arnaud Montebourg، علاوة على اشتغاله في بعض شركات الأمن الخاص.
ومما زاد من حدة النقاشات داخل الفضاء العام الفرنسي أن الحدث حصل في فاتح مايو 2018، ولم يتم تسريبه إلى بعد أكثر من شهرين ونصف، أي في 18 يوليو/ تموز 2018، وبقي الرئيس "ماكرون" صامتا، ولم يتكلم عنه إلا بعد قرابة أسبوع، أي في 24 يوليو 2018. كما أن القضاء ظل مبعدا، علما أن أحكام القانون الجنائي تستلزم إخبار وكيل الجمهورية كلما تعلق الأمر بأحداث من هذا النوع.
وحتى حين شرعت الكرة تتدحرج بين مؤسسات الدولة، صعب على الرأي العام الفرنسي إمساك خيوط القضية، حيث كان كل طرف من الأطراف المعنية يتهرب من المسؤولية ويلقييها على الآخر، هذا ما حصل تحديدا بين وزارة الداخلية ورئيس الأمن الولائي، وإلى حد ما مكتب مؤسسة الرئاسة.
لذلك، أثارت قضية "الكسندر بنعلا" تساؤلات كثيرة حول تعدد أجهزة الأمن في فرنسا، وعن مدى تكاملها أو استقلالها، وهل يحق لرئيس الدولة امتلاك أمنه الخاص التابع له دون سواه؟ أم يجب أن يكون تحت وصاية وزارة الداخلية ومسؤولا أمامها، وأمام أجهزة القضاء؟
ثم ما هي حدود صلاحية الأمن الخاص برئيس الجمهورية التي لا يجوز تجاوزها؟ ومن له حق رسم هذه الحدود، ومن يراقب سلامة احترامها في التطبيق والممارسة؟ والواقع أن من تابع المناقشات والردود التي أعقبت خروج قضية "الكسندر بنعلا" إلى الفضاء العام"، يكتشف طبيعة الملف الذي نجم عن سلوك المساعد الأمني لرئيس مكتب الرئيس الفرنسي "امانويل ماكرون"، كما يمكنه توقّع الأبعاد التي قد يعرفها هذا الملف داخل الساحة السياسية الفرنسية ومؤسساتها؟
لم تؤثر قضية "الكسندر بنعلا" حتى الآن على شعبية الرئيس الفرنسي، حيث ارتفعت بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة بواحد في المئة، قياسا لما كانت عليه من قبل، كما لم تُربك عمله، على الرغم من حدة المناقشات والمظاهرات، كما لوحظ على الرئيس حين خروجه عن صمته لأول مرة بخصوص هذا الحدث، وكأن الأمر عادي ويمكن أن يحصل لأي رئيس وضع ثقته في أمنه الخاص فخانه في لحظة ما.
بيد أن القضية أخذت أبعاداً أخرى لدى أطياف المعارضة، وبعض شخصيات الرأي العام الفرنسي، ولا يعرف على وجه اليقين ما ستسفر عنه بعد إجراءات التحقيق التي شكلت لجنة بخصوصها ..فهل مثلا تستطيع اللجنة استدعاء الرئيس والاستماع إلى إفاداته في الموضوع؟ وهل ستنجُم عن نتائج تحقيق اللجنة تأثيرات على الحكومة ومؤسسة الرئاسة؟ وما طبيعة هذه التأثيرات ونوعها؟
ومن جهة أخرى، هل ستقود قضية "بنعلا" فرنسا نحو إعادة النظر في تنظيم أجهزتها الأمنية، بما يجعل الأمن الرئاسي مثلا تحت إمرة وزارة الداخلية دون سواها؟ أم أن من حق الرئيس، كما هو موجود في الكثير من الدول، امتلاك أمن خاص تابع له، يُعينه بمحض إرادته، ويشرف على عمله، ويكون خاضعا له على مستوى المراقبة والمحاسبة؟
ففي كل الأحوال أماطت قضية "ألكسندر بنعلا" اللثام عن وجود ممارسات وثغرات في قمة هرم السلطة في فرنسا، كما أكدت الحاجة إلى ضرورة إعادة تنظيم أجهزة الأمن في كيان الدولة، بشكل يجعلها أكثر تكاملا وتناغما ووضوحا.
لذلك، تكمن قيمة القضية المطروحة بحدة على النقاش في الفضاء العام الفرنسي في كونها حفّزت الطبقة السياسية على التفكير في ممارسات متناقضة مع القيم التي أجمعت عليها الأمة الفرنسية، والتي تظل في جوهرها قيم الجمهورية التي أجمع الفرنسيون عليها.