كغيرها من الأحداث السياسية المهمة، تحظى الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية باهتمام عربي كبير، خصوصا على المستوى الشعبي. يتابع العرب "مونديال" الانتخابات التركية من مقاعد المتفرجين، بينما "يسجل" الأتراك أهدافا جديدة في "مرمى" الديمقراطية.
وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات تحظى بمتابعة
عالمية أيضا، سواء على المستويات الرسمية أو الإعلامية بحكم توتر العلاقة بين
تركيا ومعظم الحكومات الغربية، إلا أن الاهتمام العربي يتخذ طابعا شعبيا لأسباب
سياسية وأخرى إنسانية، فما هي الأسباب التي تصنع هذا الاهتمام؟
أول أسباب اهتمام العرب بالانتخابات التركية هو
أنها انتخابات حقيقية، لا يجرؤ أي مراقب أو محلل حصيف أن يحسم بنتيجتها، وبرغم
تقدم الرئيس أردوغان بمعظم الاستطلاعات على منافسيه، إلا أن النتيجة لن تحسم إلا
بعد إغلاق الصناديق وفرز الأصوات وجمعها، فيما لا تزال مسألة حصول حزب العدالة
والتنمية الحاكم على الأغلبية غير محسومة أيضا، بل إن فرص عدم حصوله على الأغلبية
هي الأكثر توقعا.
هكذا يصبح الاهتمام بالانتخابات مفهوما؛ لأن كل
مهتم سيبقى صامتا مترقبا في حضرة الشعب، الذي هو فقط من سيحسم النتائج، وسيحسم معها
مستقبل البلاد وسياساتها الاقتصادية والداخلية والخارجية لسنوات قادمة. يحدث هذا
بينما لا تحظى أي انتخابات عربية بهذا الاهتمام الشعبي العربي لأن النتائج محسومة،
ومعروفة مسبقا، ولا يهم عندها إذا حصل "الزعيم الملهم" على 99% أو 92%،
إذ إن هذا الرقم أيضا يتم تحديده من أجهزة الدولة وليس من الناخبين!
أما السبب الثاني للاهتمام العربي بالانتخابات
التركية، فينطلق من أسس أيدولوجية، ويزيد من ضراوته حالة الاستقطاب الشديد غير
المسبوقة في المنطقة، إذ يراهن مؤيدو التجربة التركية على فوز أردوغان، بينما
ينتظر خصوم هذه التجربة وأعداؤها مفاجأة قد تحرم الرئيس التركي من الفوز من الدورة
الأولى بما يمكن أن يعقد مهمته، كما أنهم ينتظرون أن تتحقق بعض الاستطلاعات التي
أشارت إلى إمكانية خسارة تحالف العدالة والتنمية للأغلبية البرلمانية، وهو الأمر
الذي قد يسبب تعطيلا لأردوغان وسياساته في المستقبل.
وفي ظل حالة الاستقطاب هذه، ومع تراجع الثورات
الشعبية وهزيمتها المرحلية من الثورات المضادة، فإن تركيا تمثل "مثالا"
لدى قطاع عريض من الشعب العربي الذي خسر معركة التحديث والديمقراطية بعد
"الربيع العربي"، وهي ترى أن نجاح هذا المثال يشكل بديلا أو تعويضا عن
الفشل الذي منيت به الثورات في العالم العربي؛ لذلك فإنها تهتم بمتابعة
الانتخابات؛ لأنها مرتبطة "بالنموذج" الذي حلمت به وفشلت حتى الآن في
تحقيقه.
وعلى أهمية الأسباب السابق ذكرها في تفسير
الاهتمام العربي بالانتخابات التركية، إلا أن السبب الأهم يبقى هو تأثر المنطقة
بشكل مباشر بالسياسة في تركيا، إذ إن أنقرة اليوم أصبحت منغمسة في أكثر الملفات
الساخنة التي يعيشها إقليمنا الملتهب. لقد كانت دوما تركيا أحد الأضلاع الثلاثة
المكونة للمنطقة إلى جانب العرب وإيران، لكنها لم تكن يوما تمتلك مثل هذا التأثير
والانغماس في المنطقة. تركيا اليوم تتأثر وتؤثر في سوريا، وفي الصراع العربي
الإسرائيلي، وهي أيضا جزء من التحالفات أو "الاصطفافات" التي أفرزتها
المعركة الدائرة بين تيارات الربيع العربي وتيار الثورة المضادة، وهي أيضا موجودة
في الحالة التي خلقتها الأزمة الخليجية وحصار قطر.
هذا الانغماس التركي في المنطقة يجعل العربي
مهتما بانتخاباتها؛ لأن نتيجتها قد تغير من سياسة أنقرة تجاه الملفات الساخنة التي
سبق ذكرها، كما أنها قد تؤثر إذا حصل تغيير في القيادة التركية على العلاقة مع
تيار مهم ورئيسي في المنطقة، وهو تيار الإسلام السياسي، الأمر الذي يعزز الاهتمام
العربي بالانتخابات، سواء من قبل مؤيدي سياسات أردوغان أو معارضيها.
وإضافة للأسباب السياسية والأيدولوجية، ثمة عامل
إنساني لا يقل أهمية، وهو التداعيات الممكنة لأي تغيير كبير في القيادة التركية
على وضع اللاجئين السوريين في تركيا، وكذلك على وضع الآلاف من العرب الذين فروا من
بلادهم بسبب الاستبداد والقمع، خصوصا بعد الانقلاب العسكري في مصر، ووجدوا في تركيا
ملاذا آمنا لهم، وليس من المتوقع أن تستمر السياسة التركية تجاههم على حالها في
حال حصول تغيير مفاجئ بالقيادة التركية.
الاهتمام العربي الشعبي بالانتخابات التركية له ما
يبرره إذن، لكنه يظهر مرة أخرى كيف اكتفى العرب بدور المتفرج فيما يقوم الآخرون
بالفعل. هذا الدور السلبي كان قد تغير لفترة محدودة بعد الربيع العربي عندما أصبح
للانتخابات معنى في دول الربيع، وهو ما جعل العالم العربي كله ينتظر عدة أيام
لظهور نتيجة الانتخابات الرئاسية في العام 2012، قبل أن يعيد الانقلاب الدموي
المواطن المصري والعربي إلى مدرجات المتفرجين من جديد. لا شك أن النظام العربي
القديم "نجح" حتى الآن بتثبيت هذه المعادلة، لكن الشعوب العربية ستنتقل
يوما ما، ربما يكون قريبا أو بعيدا، إلى دائرة الفعل الديمقراطي، ولن تبقى للأبد في
مقاعد الجمهور، شاءت الثورة المضادة أم أبت.