مقالات مختارة

ماذا جرى داخل السفارة الإسرائيلية في تونس؟

1300x600

في إحدى الفلل الفخمة على أطراف العاصمة تونس، صنعوا المقر المفترض لسفارة إسرائيل فيها. واجترحوا الصعب والمستحيل ليقنعوا كل من تابع فصول الأحداث التي جرت فيه، بأن كل من استدرج لذلك المبنى السري كان في حكم المفقود، وكل من كتب له الخروج منه سالما معافى، كان بحق بمثابة الوليد الجديد، وبأنه لا مجال للشك والريبة في ما أظهرته الكاميرا هناك بالصوت والصورة من مفاجآت مدوية، وبراهين قوية على أن من كانوا يحسبون مناضلين لا يساومون البتة ولا يفاوضون أو يتراجعون أبدا عن مواقفهم ومبادئهم، ويعترف لهم العدو قبل الصديق بنزاهتهم والتزامهم بقضايا الأمة وهمومها، قد انكشفوا على حقيقتهم بمجرد أن دخلوه مخدوعين وغافلين لتسقط عنهم آخر أوراق التوت التي تواروا خلفها. 

ويتضح بالأخير أنهم ليسوا سوى تجار وسماسرة جشعين، لا يقلون خسة ونذالة وخداعا عن سائر الخونة والعملاء، الذين لا يهتز لهم رمش واحد حين يبيعون أنفسهم وضمائرهم، وكل ما يملكون في مزاد مفتوح لأعلى متقدم ويتنكرون بسرعة البرق لأقوالهم وعهودهم، فداء لجشعهم ونهمهم لكسب المنافع والعطايا والمناصب. 

أما كيف فعل صناع السفارة ذلك، وكيف توصلوا لمثل ذلك الاستنتاج بمثل تلك السرعة والسهولة؟ وبأي أسلوب أو طريقة أمكنهم تحقيق ذلك الاختراق التاريخي الصادم؟ فتلك قصة أخرى لم تشغل، على ما يبدو، بال المشرفين على البرنامج التلفزيوني «شالوم» الذي يبث يوميا وعلى امتداد شهر رمضان على إحدى المحطات الفضائية التونسية وتدور أحداثه داخل تلك الفيلا وحولها. 

وفكرة البرنامج الذي لا يؤكد معده على أنه «كاميرا خفية» مثلما يدل عليه عنوانه، بل يصر على أنه برنامج استقصائي وسياسي بالدرجة الأولى، هي أن يُدعى وجه سياسي أو رياضي أو فني بارز، لإجراء مقابلة مع إحدى المحطات الفضائية الأجنبية، فيجد نفسه في مواجهة مباشرة وجها لوجه مع من يفترض أنه حاخام يهودي وسيدة تعمل في ما يفترض أيضا أنها السفارة الإسرائيلية في تونس، ليعرضا عليه دعمه بشتى الوسائل، بما فيها المال والعلاقات والنفوذ، حتى يقبل أن يدرب فريق كرة إسرائيليا مثلا أو ينشئ حزبا ويخوض غمار الانتخابات، أو يقوم بمسعى لأجل التمهيد لتحويل الوجود السري للسفارة إلى وجود علني، ويحد من فورة الغضب الشعبي والمواقف المناوئة لإسرائيل في تونس. وبناء على ردة فعل الضحية، وهو هنا ذلك الوجه المعروف الذي سقط في الفخ، يتحدد بنظر معد البرنامج ومن ثم الجمهور، إن كان خائنا ومطبعا، أم وطنيا مخلصا وصادقا في دفاعه عن القضية. لكن الحلقة التي تظل مفقودة وسط ذلك الشريط المتسارع من الأحداث، هي تحت أي ظرف يمكن الوصول لتلك النتيجة. 

وهل من الطبيعي والمقبول أن تكون كل السبل والوسائل جائزة ومشروعة لأجل انتزاع ما يبدو اعترافا أو إقرارا بالتصالح مع العدو، وان يكون الطريق لذلك هو الترهيب وحتى الاحتجاز في تلك الفيلا، رغما عن رغبة الضيف؟ وما قيمة المواقف والردود التي تقتلع من شخص مسلوب الإرادة لا يملك حرية القرار أو حق الاختيار؟ ثم ما الغاية أصلا من وراء دعوة وجه سياسي بارز، ووصفه مثلا بأنه شخصية معروفة بعدائها الشديد للكيان الصهيوني، واختزال كل ردوده على تلك المسرحية، وعلى العرض الافتراضي للتطبيع في كلمات مجتزأة ومبتورة من قبيل «ما المشكل من الحوار؟» أو «لا مشكل لي مع إسرائيل؟» والتشديد عليها، رغم أن صاحبها أقر مرارا وتكرارا بأنه كان مجبرا تحت التهديد بالسلاح، الذي تبين لاحقا أنه مجرد لعبة على التصريح بها، مثلما أعلن ذلك عبد الرؤوف العيادي قبيل عرض البرنامج؟ لا شك أن الحالات المعاكسة الأخرى التي ظهرت على النقيض من ذلك، أي تلك التي رأينا أو سنرى فيها شخصيات تظهر قدرا واضحا من الهدوء ومن برودة الأعصاب ورباطة الجأش، وكانت قادرة حتى على أن تدخن سيجارة وتقول بثقة وطمأنينة لمحاوريها أو محتجزيها في السفارة الافتراضية، بأنها لن تبيع ولن تخون ولن تقبل بالعمل أبدا ضد مصلحة الشعب التونسي، أو أن تونس ليست للبيع، ليست بأي حال حجة على صدقية المسرحية، أو دليلا على أن طبيعة الأدوار التي ظهرت فيها تتطابق مع الواقع بالفعل، وألا وجود أبدا لعنصر الإكراه والضغط لأجل انتزاع مواقف معينة من بعض الوجوه المعروفة بالتحديد. 

لقد لخص بيان نقابة الصحافيين التونسيين القصة كلها حين قال عن البرنامج إنه «استند إلى الإثارة بدون تقديم أي مضمون أو فكرة تخدم المتلقي، عدا محاولة تشويه الأشخاص ووضعهم في سياق معين لمحاكمة نواياهم». وإنه «لا يمت بصلة للمنتوج الصحافي أو الاستقصائي، ولا يستجيب لمعايير البرامج الترفيهية المعروفة بالكاميرا الخفية ويتضمن انتهاكا صارخا لأخلاقيات المهنة» و «إن استعمال القوة والترهيب في التعامل مع الضيوف وإجبارهم على مواصلة المشاركة في اللقاء، وانتزاع تصريحات منهم لا يمت للعمل التلفزيوني والإعلامي بأي شكل من الأشكال»، و»إن التمرير اليومي لمشاهد تتضمن علم الكيان الصهيوني يعتبر تطبيعا مع الكيان المحتل وتمييعا للقضية الفلسطينية». ولكن هل الحل الذي طرحته النقابة في بيانها وهو» التعويل على وعي التونسيين لمقاطعة مثل تلك البرامج» واقعي وممكن بل حتى مفيد ومجد؟

إن نظرة خاطفة على حصيلة الانتخابات البلدية التي جرت مطلع الشهر الجاري في تونس، تجعلنا نرى بوضوح كيف أنه وبتزامن مع استمرار صعود الإسلاميين وتقدمهم على منافسيهم، كان هناك ضعف ملحوظ في الإقبال على صناديق الاقتراع، خصوصا من جانب فئة الشباب. وهو ما يشير إلى أن هناك قسما واسعا من تلك الفئة بالذات ليس مقتنعا أو متحمسا على الأقل للمشاركة في العملية الديمقراطية. ومثل ذلك العزوف ليس سوى المظهر الخارجي لمشكل أعمق وأكبر، يبدو متعدد الأسباب والجذور، ويهم في جانب منه ترهل الطبقة السياسية، وعجزها عن أن تكون قريبة من ذلك الشباب ومن هواجسه وطموحاته. والإشكال الحقيقي هو ألا أحد اختبر حتى الآن ردة فعل هؤلاء، لا على مدى استيعابهم للديمقراطية والحرية وطريقة فهمهم لها فقط، بل حتى على ما يدور من حولهم من أحداث وتحديات وفي ما إذا كانوا مؤمنين وملتزمين بالفعل، مثل الأجيال التي سبقتهم، بقضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين. 

إنهم لم يراكموا إلا الإحباطات ولم يعبأوا إلا بمشاعر السخط والنقمة على تلك الطبقة السياسية وعلى قضاياها وشعاراتها. ولم تتح لهم الفرصة لأن يعرفوا ما تعنيه فلسطين لهم، أو ما يعنيه التطبيع مع إسرائيل لبلدهم. فهل في غياب ذلك يستطيع هؤلاء الذين لم يخرجوا لشوارع تونس في الرابع عشر من الشهر الجاري، بمئات الآلاف للاحتجاج على قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس، أن يقاطعوا برنامجا تلفزيونيا فقط لأنه افتقد للمعايير المهنية والأخلاقية المطلوبة؟ ربما يكون التأمل في تلك الصورة المشوشة أهم بكثير من معرفة المزيد من التفاصيل عما جرى ويجري داخل مقر تلك السفارة المزعومة. 

القدس العربي