تقدم ثلاث دول عربية ، هي لبنان والسودان والعراق، صورة البلدان الأكثر قابلية ً لاستلهام مفهوم "الديمقراطية التوافقية" Democratie consensuelle، بحكم تركيبتها الإثنية والعرقية والجغرافية والاجتماعية والسياسية.
ولئن اجتمعت لديها العوامل اللاّزمة لإرساء دعائم هذا المفهوم وتعميق بنيانه في الدولة والمجتمع، فقد عَـزَّ عليها على صعيد الممارسة مراكمة سلوكات وتقاليد من شأنها تكريس ثقافة الديمقراطية التوافقية وتأكيد انغراس مقوماتها، وفي صدارتها مبدأ "التحالف لكبير"، وخاصية "الفيتو المتبادل"، وقاعدة "النسبية"، ومقوم "الاستقلالية"، وهي في مجملها من أساسيات قيام "الديمقراطية التوافقية" واستمرار تطبيقها.
تعتبر "الديمقراطية التوافقية" كالديمقراطية التمثيلية قيمةً ومنهجاً في العمل. فبحسبها قيمةً تحتاج إلى قدر كبير من الصبر والتسامح والإعتراف بالحوار والبحث الدؤوب عن التسويات والتنفاهمات المشتركة.
ثمة عودة واضحة ومكثفةً لطغيان الولاءات الأولية دون سواها في رسم صورة السياسية وتوجيه سلوك الفاعلين وتأطير مواقفهم
ولكونها منهج عمل تستلزم اجتهاداً جماعياً لإستنباط الآليات والوسائل الناجعة لتيسير انبثاث القيمة في ثقافة الناس ووعيهم الجمعي. لذلك، لا تستمد الديمقراطية التوافقية وجودها من نظرية سياسية جاهزة ومكتملة، بقدر ما تغتني بالممارسة والسلوك اليومي، المنتظم والدائم للفاعلين السياسيين..
فهي اختبار وتجريب وإعمال مستمر في الزمن، ولعل هذا ما يفسر ضعف إستقامتها في المجال السياسي للدول الثلاث المشار إليها أعلاه.
بيد أن "الديمقراطية التوافقية" تشترط، علاوة على ما سبق بيانُه، اجتثاث الولاءات الأولية، المؤسَّسة على اعتبارات القبيلة والعشيرة والطائفة، وإستبدالها بالولاء الوطني، ما يعني إعادة تشكيل عالم السياسة، وما يرتبط به من قضايا نظرية وفكرية، في وعي الناس وتمثلاتهم.
فمن هذه الزاوية بالذات تبدو أوضاع لبنان والسودان والعراق بعيدةً، بدرجات مختلفة، عن تحقق هذه المقومات في أوطانها، بل نزعم القول أن ثمة عودةً واضحةً ومكثفةً لطغيان الولاءات الأولية دون سواها في رسم صورة السياسية وتوجيه سلوك الفاعلين وتأطير مواقفهم.
يخترق البلدان الثلاثة لبنان، السودان، العراق (خيطٌ رابطٌ يتعلق بضعف وجود الدولة أو انعدامها).
وحيث أن الدولة "مؤسسة المؤسسات"، بتعبير الفقيه "موريس هوريو"، و"مربيةُ المربين"، فإن ضعف انغراسها أو غياب وجودها كحقيقة سياسية ومجتمعية، يحجِبُ إمكانيات تكوُّن الحس المدني لدى الناس ويُبعِدُ الانتماء الوطني عنهم، ويُحفزهم، بالضرورة، على الاحتماء بالأشكال الأولية لانتسابهم الجماعي.
فوفق إحصاء 1955 ـ 1956، وهو الوحيد الموثوق به، هناك ما يفوق 500 قبيلة و50 لغة أو لهجة محلية في السودان، وثمانية عشرة طائفة في لبنان، والعديد من العشائر والقبائل في العراق، والحال أن الديناميات السياسية للدول الثلاث لم تتمكن منذ استقلال هذه الأخيرة من إعادة هيكلة كل هذه الأشكال من الولاءات وتطويعها بما يجعل الولاء للوطن والدولة هو الأصل والقاعدة.
في الحالة اللبنانية لم يسعف إتفاق الطائف اللبنانيين في الإنتقال من الطائفية إلى المواطنة، بل بعد مرور قرابة ثلاثة عقود 1990 ـ 2018 يتأكد أن مسار بناء نظام المواطنة في لبنان صعب وشاق
تأسيسا على ما سلف بيانُه، يمكن للديمقراطية ااتوافقية أن تكون إطارا سياسياً ناجعاً لحالات لبنان والسودان والعراق، بيد أن النجاعة تحتاج إلى ثقافة سياسية حاضِنة ومطوِّرة لمفهوم الديمقراطية التوافقية ذاتِه، والحال أن الثقافة بطبيعتها تتأسس على التعدد والتنوع والحوار والتسامح في إدارة الاختلاف والاعتراف المتبادل، وكلها أساسيات لازِمة لبناء الثقة بين الأطراف المتعددة، وضرورات لا مندوحة عنها لحفزِ الجميع على الإندفاع الإرادي في ديناميات الديمقراطية التوافقية.
ففي حالة العراق تبدو هذه الأساسيات موسومةً بالضمور وعدم الإكتمال، بل إن البارز أكثر هو السعي إقليمياً وأحيانًا دولياً للإنتصار إلى طرف دون الآخر، وتغليب مذهب دون سواه، وتعظيم فكر أو إيديولوجيا دون أخرى، علماً أن روح الديمقراطية التوافقية تكمن في أن يجد المفردُ ذاتًه في المتعدد، وأن ينأى المتعدد بنفسه عن تذويب المفرد، أو إساءة هذا الأخير إلى المتعدد وثقافته.
لعل الأمر نفسه نلمسه في حالة السودان، حيث لم تمسك الأطراف المتوافِقة من أجل السلام بناصية التعبير عن الجميع، أي المتعدد. فهكذا، لم يستوفِ كل من حزب المؤتمر الوطني وجيش التحرير الشعبي السوداني شروط إنبثاق الديمقراطية التوافقية في المجتمع السوداني، فظلت عوامل الفُرقة والشعور بالحرمان منبثةً في شعور العديد من مكونات الشعب السوداني، التي رأت الإقتراب من عتبة القسمة المتوازنة للسلطة والثروة بعيداً وصعب المنال، رغم ما يتم الترويج له بكثافة عبر وسائل الإعلام.
وفي الحالة اللبنانية لم يسعف إتفاق الطائف اللبنانيين في الإنتقال من الطائفية إلى المواطنة، بل بعد مرور قرابة ثلاثة عقود (1990 ـ 2018) يتأكد أن مسار بناء نظام المواطنة في لبنان صعب وشاق ويحتاج إلى تنازلات أليمة من الجميع، ولربما حان الوقت أن يفتح اللبنانيون بجد الملفات التي ظلت مطويةً بإرادة البعض وصمت البعض الآخر، وفي صدارتها بناء كيان الدولة وإعادة صياغة فكرة الولاء لتكون متناغمة مع منطق الدولة لا متعارضة معه.. لقد ظل كل شيء حاضراً في لبنان: الطوائف والمذاهب، والأحزاب والتنظيمات، والمجتمع بمختلف تعبيراته، والمال وسلطانُه، والقوى الإقليمية والدولية، وحدها ظلت غائبة الدولة ومنطقها وروح مؤسساتها.. إنها المعادلة التي تحتاج إلى اجتهاد في النظر، وإرادة في الفعل، وإصرار في الإنجاز لتستقيم الديمقراطية التوافقية في لبنان وتغدوً ناجعة في الدولة والمجتمع.