قضايا وآراء

ما قيمة الانتخابات البلدية في ظل انتقال ديمقراطي مأزوم؟

1300x600

مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية التونسية - سيقترع المدنيون يوم 6 مايو 2018، أما الأمنيون والعسكريون فسيقترعون يوم 29 إبريل الجاري-، ومع عجز المجلس النيابي إلى حد كتابة هذا المقال عن استكمال النظر في مشروع القانون الأساسي للجماعات والتصويت عليه قصد اعتماده في الانتخابات البلدية القادمة حيث نظر المجلس إلى حدود الجلسة العامة ليوم الخميس 12 إبريل الجاري في الفصول من 1 إلى 126 من مشروع القانون الأساسي لهذه المجلة وعددها 392 فصلا. –وهو ما يعني إمكانية إجراء الانتخابات بقانون 1975 غير الدستوري، الأمر الذي نبّه على خطورته الأستاذ غازي الشواشي النائب بالبرلمان وأمين عام حزب التيار الديمقراطي-.


 ومع استمرار حالة الاحتقان الاجتماعي وهشاشة منظومة الحكم والمعارضة على حد سواء،  يبدي الكثير من التونسيين شكوكا مشروعة في قدرة الانتخابات البلدية على تغيير حالة الانحدار النسقي التي يعيشها مسار الانتقال الديمقراطي برمّته منذ انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية. 

 

فرغم رمزية هذا الحدث وأثره المتوقع في تغيير بنية السلطة وتوجيهها نحو اللامركزية والحكم المحلي، فإن كل الدلائل تشير إلى أن تلك التوقعات تحمل الكثير من التفاؤل الطفولي الذي تسعى بعض الأطراف داخل منظومة الحكم إلى ترسيخه. 


فاللامركزية والحكم المحلي وغير ذلك من أشكال إضعاف سلطة المركز لا يمكن أن تؤتي أُكلها إلا بوجود شرطين أساسيين على الأقل: أولا وجود إرادة سياسية حقيقية لتفكيك بنية الاستبداد وهيمنة المركز على سائر البلاد-إرادة تقبل بتوزيع السلطة وتقاسمها ضمن مشروع وطني يكون محل توافق كبير إن لم يكن محل إجماع-، وثانيا وجود تشريعات وتمويلات ومؤسسات رقابية أو تحكيمية تضمن السير الطبيعي للحكم المحلي وتكون قادرة على إدارة علاقته بالمركز في صورة حصول التنازع.

فيما يخص الشرط الأول -أي شرط الإرادة السياسية العامة والحقيقية لإنجاح تجربة اللامركزية والحكم المحلي- فإن سلوك النخبة الحاكمة وثقافتها السياسية المنحدرة من الثقافة الاستبدادية –وإن بدرجات متفاوتة- تبدو عائقا هاما أمام خلخلة بنى التسلط التقليدية. 


فالدولة الوطنية (أو الدولة-الأمة) قامت منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا على ضرب السلطات/الزعامات المحلية التقليدية، كما قامت على فلسفة يعقوبية فرنسية –أي على مركزة السلطة وهيمنة الدولة على الفضاء العام وفرض خياراتها في مختلف مناطق البلاد مهما كانت  اختلافاتها الثقافية-، وهو ما يعني تناقض هذه الفلسفة السياسية مع مفهوم الحكم المحلي أو اللامركزية وما يحملانه من "إمكان" ظهور مراكز جديدة للسلطة، مراكز قد تدفعها إرادة الناخبين إلى اعتماد خيارات ثقافية أو اقتصادية لا تتواءم مع الموروث السياسي للمركز من جهة أولى، ومع التزامات الحكومة المركزية تجاه القوى الإقليمية والدولية من جهة ثانية. 

ورغم أن هذا الإمكان يظل ضعيفا جدا بحكم تصدر أحزاب الحكم –خاصة نداء تونس والنهضة- نوايا التصويت في الانتخابات البلدية القادمة -وهو ما يعني حتمية إدارة الحكم المحلي واللامركزية بالعقل السياسي للحكم المركزي-، فإنّ خطر انبثاق مواقع جديدة للزعامة أو لإنتاج المعنى السياسي من خارج الثقافة السائدة-حتى في المدى البعيد- يبقى هاجسا يؤرّق النخب المهيمنة على الحكم المركزي.

 

ولذلك من المستبعد جدا أن تعمل هذه النخب على إنجاح التجربة، ومن المرجّح أن تفرغها من مضامينها وأن تنقلب عليها حتى لو أوجدت لها أفضل القوانين من الناحية الشكلية. ولا شك في أن التونسيين مازالوا يتذكرون جيدا تلاعب المخلوع بالدستور وبمجمل القوانين ، بل إن تونس تعيش حاليا شكلا صريحا من أشكال الانقلاب على الدستور بتحوّل النظام البرلماني المعدّل إلى نظام رئاسي في الواقع، وبتحوّل "وثيقة قرطاج" إلى ضرب من "مجلس الرئاسة" الذي جعل من رئاسة الحكومة ومن البرلمان مجرد مؤسستين صوريين لا تمتلكان أية سلطات حقيقية.

أمّا الشرط الثاني الضامن لنجاح اللامركزية والحكم المحلي -أي شرط التشريعات والتمويلات والمؤسسات الرقابية والتحكيمية-، فلا يبدو حاله أفضل من حال الشرط الأول. إذ لا يخفى أن نداء تونس منذ وصوله إلى الحكم بعد انتخابات 2014 لم يدّخر جهدا في ضرب مسار الانتقال الديمقراطي وتعطيل عملية تركيز الهيئات الدستورية. كما لا يخفى أنّ السلوك السياسي لرئيس الدولة-ولنواب حزبه وحلفائهم في البرلمان- لا ينبئ عن ثقافة ديمقراطية يمكنها التأسيس للشراكة في مستوى الحكم المركزي فضلا عن القبول بتوزيع السلطة بين الجهات. ومن الواضح أنّ الرئيس الذي استولى واقعيا على سلطات رئيس الوزراء وحوّله إلى وزير أول –بالمعنى السائد في عهد المخلوع-  لا يمكن -من باب أولى- أن يقبل بتقاسم سلطاته مع غيره من الذين ستفرزهم صناديق الاقتراع في البلديات سواء أكانوا من حزبه أم من الأحزاب الحليفة أو المنافسة. 

في خاتمة هذا المقال، يبدو من الصعب على المهتم بالشأن التونسي أن يصدّق أنّ الانتخابات البلدية تُمثل لحظة مفصلية في مسار الانتقال الديمقراطي. فبغياب الثقافة الديمقراطية الحقيقية، وبانعدام الرغبة في إعادة توزيع السلطة والثروة على أساس أكثر عدلا ، يبدو أن البلديات لن تكون إلا شكلا مصغرا من أشكال الحكم المركزي، بل يبدو أنها سترث أمراض الحكم المركزي ولن تتعافى منها –إذا قُدّر لها التعافي- إلا بدخول متغيرات جديدة قد تُعدّل قوانين اللعبة السياسية وتوازنات القوة التي تحكمها في الداخل والخارج، ولكنها فرضية لا يمكن التعويل عليها كثيرا في المدى المنظور.