منذ ثورة الياسمين وعودة الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس من منفاه ووصول النهضة للسلطة ومغادرتها إياها وقيامها بتدوير الزوايا الحادة في تحالفاتها السياسية ووضع يدها في يد نداء تونس التجمع العلماني من أجل قيادة الدولة التونسية، تثير النهضة الجدل الكبير في المشرق العربي حول تجربتها، لكن كيف استطاعت النهضة أن تقود تحولاتها الفكرية بدون انشقاقات داخلية؟ وكيف استطاعت إعادة إنتاج ذاتها والظهور كحامي للديمقراطية بعد خروجها من السلطة؟، وهل تخلت النهضة عن بعدها الإسلامي، وهل ستشارك النهضة في أغلبية سياسية في انتخابات خريف 2019؟
(1)تحولات النهضة الفكرية
كان لتأثر شيخ النهضة ومنظرها الفيلسوف الشيخ راشد الغنوشي بمدرسة مالك بن نبي الفيلسوف الجزائري وابتعاده عن مدرسة سيد قطب الفكرية منذ عهد مبكر من تأسيس النهضة والتي تشكلت عام 1972 أثر في تشكيل البنية الثقافية لحركة النهضة والتي بدلت اسمها من الجماعة الإسلامية إلى حركة النهضة التونسية في مؤتمرها الثاني.
منذ أبريل عام 1981 استطاعت النهضة في مؤتمرها الثاني إجراء التحولات الفكرية الرئيسية فقررت الخروج من السرية إلى العلنية وشكلت بنيتها الثقافية على مجموعة من الخطوط الواضحة المتمثلة في القبول بالدولة المدنية والتعددية السياسية والدولة الوطنية ودولة المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة.. الخ من المنتجات الغربية في العلوم السياسية الحديثة إذ نشأ جيل جديد للنهضة تربى على تلك التصورات والمبادئ العامة منذ عام 1981 وكان لعيش معظم قادة النهضة في المهجر بعد المحنة الأولى والثانية أثر كبير في التأثر بالحضارة الغربية سياسيا وعندما جاءت ثورة الياسمين تقدمت النهضة بخطوات ثابتة نحو ما تربت عليه منذ ثمانينيات القرن الماضي دون أي صراع حول الهوية أو الهدف أو شكل الدولة والمشروع المنشود .
في مايو عام 2016 استطاعت النهضة أن تقود آخر تحولاته الفكرية بفصل الدعوي عن السياسي والذي تسميه فصل الاجتماعي عن السياسي دون أي حركة انشقاق وقال حينها الشيخ الغنوشي إنهم ينتقلون من مربع الإسلام السياسي إلى مربع الإسلام الديمقراطي في إشارة إلى صبغ الحركة والمسار السياسي لها بالإيمان بالمسار الديمقراطي الخالص.
(2)إعادة إنتاج الذات
استطاعت حركة النهضة بحصافة قيادتها أن تلتقط الرسالة سريعا بما تمتلكه من قرون استشعار سياسية حساسة عند أول هبة لغبار الثورات المضادة فتخلت عن السلطة على مراحل متدرجة وسريعة مقابل الحفاظ على المسار الديمقراطي فرحلت حكومة الجبالي ومن ثم رحلت حكومة العريض وتركت السلطة بعد أن أمنت سلامة المسار الديمقراطي وحفظت الدولة من عودة الاستبداد والنظام التسلطي القديم.
قيادة النهضة تؤمن بأنه إذا ما تأخرت مصر ديمقراطيا من الخطأ أن تتقدم أي حركة في المسار الثوري فالسياسي العربي الناجح في المنطقة هو من يضبط بوصلته السياسية على القبلة المصرية وتقلباتها.
تؤمن النهضة بصفتها الإسلامية بأنها تعمل في الحقل السياسي وعيونها على الحفاظ على الحرية والديمقراطية فأينما وجدت الحرية تقدم الإسلام وأينما انتكست الحرية انتكست حركة تديين الشعوب والمجتمعات، فالإسلام في بنيته كدين ينمو ويترعرع وينتشر في البيئات الخصبة بالحرية وان حفاظهم على مسار الحرية والديمقراطية أفضل ضمانه لممارسة عملهم السياسي وعملهم الدعوي والاجتماعي وإن كانوا خارج السلطة.
استطاعت النهضة أن تفلت من موجة الثورات المضادة وتعيد إنتاج ذاتها شعبيا ونخبويا والظهور على أنها حارسة لمبادئ الحرية والديمقراطية وأنها تجعل السلطة خلفها مقابل أن تحمي مدنية الدولة وسلطة الشعب ومنجزات الدولة ومقدراتها وقد نجحت في تأكيد تلك الانطباعات سريعا من خلال صدق ممارساتها في ذلك.
(3)هل تخلت النهضة عن بعدها الإسلامي؟
ما قامت به النهضة منذ عام 1981 في تحديد هويتها وهدفها السياسي يمثل الآن أكبر جدلية سياسية تعيشها الحركات الإسلامية في المشرق العربي أدت تلك الجدليات إلى انشقاقات طولية في بنية الحركات الإسلامية كما حدث في الأردن ويحدث تحت الرماد ببطء في مصر وفلسطين حاليا.
فيما تعيش النهضة حالة من السلام الداخلي فيما بين صفوفها وحالة من الانسجام الفكري الذي تربى عليه روادها منذ ثمانينيات القرن الماضي، الجدل يثور بشكل كبير لدى الإسلاميين في المشرق العربي حول تجربة النهضة ونعتها بالحركة الإسلامية التي تحولت للتغريب وصبغت نفسها بالصبغة العلمانية لتنول رضا خصومها السياسيين وتخلت عن مبادئ الإسلام التي نشأت من أجلها استعادتها كما يحلو لهم وصفها حتى وصل بالبعض منهم التمني أن تهزم النهضة وتضمر حتى لا تبقى تحسب على حركات الإسلام السياسي بعد أن بدلت ثوبها الإسلامي كما يصفوها.
ترى النهضة بأن منتقديها لهم فهم ديني خاص بعيد عن فهم حركة النهضة التي تأثرت بمدرسة المقاصد وترى أن الحرية في الإسلام حق مقدس يجب العمل من أجله وأن مزيد من الحرية يعني مزيد من تمدد الدعوة الإسلامية وتدين المجتمعات وأن الحرية هي البيئة الأفضل للعمل الإسلامي لما تملكه دعوة الإسلام من قوة حجة وأن المضمار الأفضل للتغلب على خصومهم السياسيين وتيارات الإقصاء العلماني المتطرف لحركة التدين هو التمترس في مربع الحريات المطلقة وجرهم إليه.
كما ترى النهضة بأن السياسة مناطها تحقيق مصالح الناس وأن الدين مناطه صناعة الضمير الذي يساهم في تسريع الإصلاح السياسي وتحقيق مقاصد الشريعة الغراء، كما يرون أن السياسة جزء من العلوم الإنسانية التي تتطور شأنها شأن أي علوم إنسانية أخرى وأن الإسلام جاء بالخطوط العريضة التي تنسجم انسجام كلي مع معظم المنتج الغربي في العلوم الإنسانية.
كما ترى حركة النهضة في طرحها أن الحريات الشخصية حريات مقدسة وأن الإسلام لا يتدخل في الحريات الشخصية وإن كانت جرائم شرعية ينهى عنها الإسلام لكن لا يتدخل في حريات الناس ما دامت تلك الأعمال مستترة لم تأخذ صفة العلانية وأن النهضة لن تسمح من خلال وجودها في المجلس التشريعي بتمرير أي قانون مخالف للشريعة الإسلامية مثل الاعتراف بزواج المثليين وإعطائهم حق التبني أو تثبيت جنسهم في وثائقهم الرسمية وبنفس الوقت لن تطارد الحريات الشخصية ولن تقتحم على الناس حياتهم الخاصة وخلواتهم وبيوتهم.
(4) مستقبل حركة النهضة وانتخابات 2019
لا شك بأن فصل حركة النهضة لعملها السياسي عن العمل الاجتماعي بما فيه الدعوي سوف يسهم في تجنيب عملها الدعوي والاجتماعي أي أثار سلبية نتيجة للتدافع السياسي عند كل استحقاق انتخابي مما سوف يعطي العمل الاجتماعي والدعوي أريحية للحركة والبناء وخدمة المجتمع والارتقاء بالإنسان التونسي وتنميته.
سياسيا تستعد حركة النهضة في أكتوبر من عام 2019 لمحاولة العودة إلى السلطة من خلال الأغلبية البرلمانية وتشكيل حكومة بقيادتها على مبدأ التشاركية مع جميع القوى السياسية الأخرى لاستمرار مسيرة حماية ثورة الياسمين من طمع الاستبداد بالعودة من جديد لكنها بكل تأكيد سوف تترك ورقة الرئاسة إلى ما بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية التي تسبق الرئاسية بشهر تقريبا، فإذا ما أخفقت في الوصول لأغلبية برلمانية فعلى الأغلب أنها سوف تترشح إلى منصب الرئاسة من خلال الدفع بالدكتور الغنوشي أو المحامي والمفكر عبد الفتاح مورو لخوض غمار الرئاسة أما إذا وصلت لرئاسة الحكومة فعلى الأغلب أنها سوف تدعم التجديد للرئيس الباجي السبسي باعتباره الأقدر على حماية المسار الديمقراطي بما يملكه من كاريزما وشعبية ونفوذ داخل الأوساط العلمانية.
تدرك حركة النهضة أن حكم تونس وخاصة ورقة الرئاسة محكومة بالتوازنات الخارجية التي تلعب فيها دور كبير وخاصة الجزائر الشقيق الأكبر لتونس والتي تحتفظ حركة النهضة بعلاقة جيدة مع قيادتها السياسية وكذلك الدولة الفرنسية والتي تعتبر أن تونس تمثل امتدادا لسلطانها السياسي القديم إضافة إلى المنظومة الغربية المتخوفة من أي عودة للسلفية الجهادية لتونس الساحلية المتاخمة لأوروبا وجميعهم لا مشكلة لديهم من وصول النهضة للرئاسة.
تستقبل حركة النهضة معركة انتخابية في خريف 2019 بأوراق داخلية حزبية مرتبة ومنظومة فكرية قادرة من خلالها على إدارة التحالفات السياسية وشعبية سياسية تم ترميمها بعد أن أعادت إنتاج ذاتها كحامي للحرية ومسار الديمقراطية مع إدراكها للتوازنات الداخلية والخارجية التي تحكم الساحة التونسية مما يبعث بالأمل من جديد بتقدم النهضة وإعطاء قبلة حياة جديدة لمسيرة الربيع العربي الذي إصابته الانتكاسة والإخفاقات القاسية بعد الزلزال المصري المدمر عام 2013 وكآبة الحالة السورية الراهنة.