كنا قد أنهينا الجزء الأول من المقال بربط ملف العدالة الانتقالية باستحقاق أكبر هو الانتقال الديمقراطي. وكنا قد طرحنا في خاتمة المقال السؤال التالي: "هل يمكن لمسار العدالة الانتقالية أن ينجح في ظل تداعي مسار الانتقال الديمقراطي برمته، وفي ظل غياب القاعدة الاجتماعية والمؤسساتية الصلبة له منذ 14 كانون الثاني/ يناير 2011 إلى الآن"؟
ولا شك في أن التحول الديمقراطي نفسه كان دائما مرتبطا بمتغيرات إقليمية ودولية أثّرت بدرجات متفاوتة في مسارات ما سُمّي بـ"الربيع العربي" ومآلاته.
ومن المؤكد أيضا أن مسار الثورة التونسية -وموازين القوى بين مختلف الفاعلين الجماعيين بعد عودة المنظومة السابقة للحكم عبر حركة نداء تونس- لا ينفصل عن استراتيجيات إقليمية ودولية معادية في أغلبها للثورات العربية ومعادية كذلك لأية تغييرات جذرية في بنية الحقل السياسي العربي -فلسفة ومشروعا ومؤسسات- ومعادية أخيرا لأي مشروع وطني يرفض العلاقات الاقتصادية والثقافية اللامتكافئة مع المركز الغربي.
ولو أردنا تنزيل هذه المعطيات الإقليمية والدولية على الواقع التونسي، لقلنا إنها معطيات ستصطدم مع أي طرح جدي لملف العدالة الانتقالية ومن ورائه ملف التحول الديمقراطي.
فتفكيك بنية الاستبداد والتخلف وضرب الشروط الموضوعية والفكرية لإعادة إنتاجها -أي ضرب مصالح الوكلاء في الداخل- تعني بالضرورة مراجعة العلاقات مع الخارج وتهديد الكثير من المصالح الإقليمية والدولية التي كان استمرارها مشروطا بوجود أنظمة حكم تسلطية في الداخل ومتذيلة للخارج.
ولكن هل يمكننا أن نتحدث عن التأثيرات الخارجية التي ساهمت في تعطيل المسار الطبيعي للتحول الديمقراطي ولملف العدالة الانتقالية، دون أن نتحدث عن "القابلية المحلية" للتدخل الخارجي، تلك القابلية المرتبطة بفقدان مقوّمات السيادة وغياب مشروع وطني جامع؟
ليس من الخفي على المراقب للشأن التونسي أن "قابلية الاختراق" التي نتحدث عنها هنا تجد جذورها في جملة من الخيارات الكبرى بدءا من يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، أي يوم فرار المخلوع إلى السعودية.
وسواء أسلّمنا بوجود "غرفة عمليات" تحكمت في مسار الثورة التونسية ووجّهتها لخدمة المنظومة القديمة أم اعتبرنا ما حصل بعد الثورة مسارات طبيعية حكمتها جملة من المتغيرات التي لا تفترض بالضرورة وجود تلك "الغرفة"، فإن مسار العدالة الانتقالية قد تحدد بصورة شبه كاملة عندما رضيت النخب يمينا ويسارا بالخضوع إلى منطق المنظومة القديمة عند التعاطي مع المحاور التالية:
1- السردية البورقيبية وما يحكمها من أساطير تأسيسية. ولم تكن العودة إلى البورقيبية إلا تعبيرا عن فشل النخب التونسية كلها عن بناء سردية جديدة، سردية لا تنفي البورقيبية بالضرورة، ولكنها لا تجعل منها "الخطاب الكبير" أو الخطاب المرجعي الذي ينبغي على كل "الإخوة الأعداء" -من الإسلاميين واليساريين والقوميين والليبراليين- أن يلتمسوا مشروعيتهم منه.
وسيكون لاعتراف النخب اليسارية والإسلامية بالسردية الوطنية -وبنواتها البورقيبية الصلبة- آثار كبيرة سواء في المستوى الانتخابي أو في مستوى شرعنة ورثة المنظومة التجمعية (باعتبارهم يزعمون الانتماء إلى البورقيبية رغم أنهم أول من ساند انقلاب المخلوع عليها في 7 نوفمبر 1987).
2- مفهوم استمرارية الدولة. ولا شك في أنّ استمرارية الدولة هو مطلب جماعي، ولكن الإشكال يُطرح في مستوى طبيعة الدولة التي يراد لها الاستمرار، وفي مستوى علاقة النخب التي حكمت الجمهورية الأولى -بلحظتيها الدستورية والتجمعية- بتلك الدولة التي من المفترض أن تكون"جمهورية ثانية" لا مجرد مرحلة جديدة في الجمهورية الأولى.
وكان مفهوم استمرارية الدولة -إلى جانب التخويف من"أسلمة الدولة"- من أكبر المداخل التي وظفتها المنظومة القديمة للدفع برجالاتها إلى مراكز القرار.
3- الصراع الهووي. وهو صراع دار أساسا -ومازال يدور إلى الآن- بين القوى اليسارية والإسلاميين. ولسنا في حاجة إلى بيان أنّ حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى المدارات الهووية يصبّ في مصلحة المنظومة القديمة.
فالاستقطابات الهووية جعلت الصراع يتحول من صراع ضحايا المنظومة ضد وكلائها إلى صراع "الحداثيين" ضد "الإسلاميين" أو صراع القوى "الديمقراطية" و"التقدمية" ضد القوى "الرجعية" المهددة "للنمط المجتمعي التونسي".
ولا شك في أن هذا الطرح للصراع سيذيب التناقضات بين اليساريين والتجمعيين من جهة أولى، وسيُقوّي-من جهة ثانية- مخاوف الإسلاميين من اليسار الاستئصالي، ما يجعلهم يبحثون عن تسويات براغماتية مع النواة الصلبة للمنظومة التجمعية.
منذ الأشهر الأولى للثورة -أي خلال المرحلة التأسيسية- عرفت تونس تجاذبا حادا بين ثلاثة مفاهيم لمسار الانتقال الديمقراطي، ومن ورائه لمفهوم العدالة الانتقالية.
ويمكننا من باب الاختزال أن نقول إن فشل المسار الانتقالي-بمختلف ملفاته- يعود إلى "خطيئة أصلية" هي رغبة النخب في "وراثة " المخلوع ونظامه لا في تجاوزهما وتأسيس "جمهورية ثانية" حقيقية. فاليسار كان يرغب في انتقال ديمقراطي لا يسلبه سلطته، ولكنه كان يعي جيدا أن قوته هي قوة نوعية لا عددية، وهو ما يجعله في حاجة إلى حليف قوي عثر عليه في الواجهات السياسية للمنظومة القديمة، خاصة نداء تونس.
وكان المشترك "الثقافي" (أي الدافع عن "النمط المجتمعي التونسي" ومعاداة الإسلام السياسي) كفيلا بتذويب التناقض الإيديولوجي والعداء التاريخي بين الطرفين، لكن إلى حين.
أمّا حركة النهضة، فلم يكن تناقضها الأساسي مع التجمعيين بل مع اليسار الاستئصالي باعتباره أداة القمع البوليسي والإيديولوجي الأساسية خلال حكم المخلوع. وهو ما جعلها لا تجد حرجا في الانفتاح على الميراث التجمعي، بل لا تجد حرجا في التطبيع معه واعتباره شريكا في بناء الجمهورية الثانية.
مهما كانت الأسباب التي منعت تمرير قانون العزل السياسي للتجمعيين، ومهما كانت القوى التي جعلت من اللامفكر فيه سن قانون يُجرّم تمجيد نظام المخلوع، ومهما كان الدور الذي قام به السيد باجي قائد السبسي في استراتيجيات المنظومة التجمعية لإعادة الانتشار والتموقع، فإنّ "التجمعيين" وما ارتبط بهم من شبكات زبونية قد وجدوا أنفسهم بعد أشهر من الثورة في وضعية سمحت لهم بفرض تصورّهم لمفهوم العدالة الانتقالية -ولمفهوم الانتقال الديمقراطي- وإن تكفّل بالتسويق لهم أحيانا بعض النهضويين أو اليساريين.
في اللحظة التي اعتبرت القوى اليسارية ورثة التجمع جزءا من العائلة الديمقراطية وساندت الباجي قائد السبسي ضد المنصف المرزوقي، وفي اللحظة التي اختارات النهضة فيها أن تدير المرحلة التأسيسية وما بعدها بتوظيف ثنائية التناقض الرئيس (مع اليساريين) والتناقض الثانوي (مع التجمعيين).
في تلك اللحظة، كان مصير الانتقال الديمقراطي وملفاته الجزئية -بما فيها ملف العدالة الانتقالية- قد تحدد بصورة كبيرة، وهو ما يجعل من البكائيات التي تملأ الفضاء العام الآن ضربا من الهروب إلى الأمام، وضربا من الرفض لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية لما آل إليه الوضع في تونس.
بصرف النظر عن أداء السيدة سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، وبصرف النظر عن التوافقات التي قد تحصل بوجودها على رئاسة الهيئة أو بعد استبعادها، فإن السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يُطرح ليس هو تخلّي النهضة أو الجبهة الشعبية أو الاتحاد العام التونسي للشغل عن مسار العدالة الانتقالية -أو تخليهم عن السيدة بن سدرين ذاتها- بل إن الإشكال الحقيقي هو في تخلي الجميع عن مسار الانتقال الديمقراطي -وعن الجمهورية الثانية- بعيدا عن منطق المنظومة السابقة وسردياتها التأسيسية.
إننا أمام حقيقة تجعل من تضخم السجال العمومي الدائر حول شخص السيدة بن سدرين مجرد تلهية، أو مجرد صراع رمزي لن يغير في حركة الواقع إلا في حالة واحدة: أن يصبح موضوع العدالة الانتقالية مدخلا لإعادة التفكير في مجمل الخيارات التي حكمت القوى اليسارية والإسلامية سواء في علاقاتها البينية أو في علاقاتها بالمنظومة السابقة وورثتها الحاليين.
أما خارج هذه الفرضية، فلن يكون لبقاء السيدة بن سدرين أو لذهابها أي أثر حقيقي في مسار الانتقال الديمقراطي، ولن يكون له أي أثر واقعي في تفكيك بنية الاستبداد والتخلف والتبعية التي حكمت تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.