مروان المعشر هو السياسي الأهم على الإطلاق في الأردن اليوم، ذلك أنه
لا يشغل أي منصب حاليا، لكنه شغَل في السنوات السابقة أهم المناصب التي تتعلق
بالصراع العربي الإسرائيلي، فكان ناطقا باسم الوفد الأردني الفلسطيني المشترك إلى
مؤتمر مدريد في عام 1991، ثم أول سفير للأردن في إسرائيل، وسفيرا سابقا في واشنطن،
وبطبيعة الحال كان وزيرا للخارجية في وقت بالغ الحساسية من تاريخ المنطقة (خلال
انتفاضة الأقصى وعملية السور الواقي وحصار عرفات).
المعشر، الذي هو أحد مهندسي اتفاق السلام بين الأردن وإسرائيل
(1994)، وأحد أهم المؤمنين -على مستوى المنطقة كلها- بأن التعايش بين الفلسطينيين
والإسرائيليين ممكن، وأن التوصل لاتفاق يرضي الطرفين ممكن أيضا.. الرجل ذاته كان
جالسا قبل أيام في منزله وفوق رأسه صورة لمدينة القدس والمسجد الأقصى وكنيسة
القيامة، عندما قال لي بأنَّ «حل الدولتين مات»، وأضاف: «إسرائيل غيّرت كل شيء على
الأرض، ودمّرت أي فرصة لتحقيق السلام».
في عام 2002، جلستُ (أنا كاتب هذا المقال) والمعشر على مائدة عشاء
واحدة في فندق «هوليداي إن» في العاصمة الأردنية بحضور ثلة من الصحافيين، كان
المعشر حينها قد تولى لتوه وزارة الخارجية، بعد عدة سنوات أمضاها سفيرا للأردن في
تل أبيب وواشنطن، أما أنا فكنتُ لتوي قد أصبحتُ كاتبا (أقل من مبتدئ) بعد أن كانت
إحدى دور النشر قد طبعت كتابي عن «معاهدة وادي عربة» الذي يشرح كيف يمكن للأردن أن
يُلغي اتفاق السلام مع إسرائيل، ويُحصي الانتهاكات الإسرائيلية للمعاهدة في
السنوات الأولى على إبرامها. كنا نتناول طعام العشاء ونتبادل بعض الجدل مع الوزير
المتحمس للسلام مع إسرائيل، بينما كانت دبابات رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك
آرييل شارون تطحنُ البشر والشجر والحجر في مخيم جنين، وكان جدار الفصل العنصري يشق
طريقه على حساب أراضي الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وكان الزعيم التاريخي
الخالد ياسر عرفات يرزح تحت الحصار في مقر المقاطعة في رام الله تمهيدا لاغتياله
بالسُم الإسرائيلي.
يجلس
المعشر اليوم (عام 2018) في منزله في الأردن بعيدا عن الأضواء، وقد تغيرت كل
القناعات لديه، ففي صالة منزله صورة كبيرة لمدينة القدس إلى جانب أخرى لمدينة
البتراء، أما الصورة الثالثة فلمدينته الأصلية السلط، جلس المعشر تحت صورة القدس
عندما استقبلني بصحبة صحافي أجنبي، وتحدث لأكثر من ساعتين، لكن أهم ما قاله:
أولا:
حل الدولتين لم يعد ممكنا لأن إسرائيل غيرت الجغرافيا والديموغرافيا، ولم يعد من
الممكن اليوم إقامة دولة فلسطينية وفقا للرؤية التي كانت قائمة عند الذهاب إلى
مؤتمر مدريد في عام 1990، أو عند توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993.
ثانيا:
أقل من 1% من الأردنيين يؤيدون اليوم التمسك بمعاهدة وادي عربة للسلام بين عمّان
وتل أبيب، وذلك بسبب الإجراءات الإسرائيلية المتناقضة مع مسيرة السلام وإدراكهم
لذلك.
ثالثا:
مدينة القدس والحفاظ عليها كان هدفا رئيسا بالنسبة للأردن من السلام، أما تغيير
معالم المدينة وتهويدها، والإجراءات التي قامت إسرائيل بها فيها، فكل هذا يجعل
الاتفاقية بلا معنى بالنسبة للأردن على الأقل.
رابعا:
«صفقة القرن» ليست سوى «صفقة إسرائيلية» ويرى المعشر أن من المستحيل أن تحظى بقبول
أي طرف فلسطيني، كما يرى استحالة نجاحها ما دام الإجماع الفلسطيني على رفضها قائما.
خلاصة
الكلام هو أنَّ القائمين على مشروع التسوية أنفسهم باتوا يدركون أن إسرائيل دمَّرت
الماضي والحاضر وغيَّرت الواقع على الأرض، وأنهم ارتكبوا الخطأ مرتين، مرة عندما
راهنوا على حسن نوايا الإسرائيليين، والمرة الثانية عندما راهنوا على نزاهة الوسيط
الأمريكي، فخسروا الرهانين.
أما
الأخطر في مشهد اليوم، فهو أن الحديث عن أن «حل الدولتين مات» يعني بالضرورة أن
السلام أصبح مستحيلا، وأن لا سيناريو قابلا للتطبيق يلوح في الأفق؛ إذ إن فكرة
«الدولة الواحدة» أقرب إلى الخيال والمثالية منها إلى الواقعية، وإمكانية التطبيق،
واستمرار «الحكم الذاتي» بشكله الحالي مع تحويل السلطة إلى «روابط قرى» ليس سوى
«قنبلة موقوتة» يمكن أن تنفجر في أي لحظة، لأن الفلسطينيين لم يقبلوا بالسلطة كحل
نهائي، وإنما كحل مرحلي، وسبق لهم أن رفضوا مشروع «روابط القرى»، وأفشلوه في سبعينيات
القرن الماضي.