لا أحد يشك اليوم بوجود معركة ساخنة بين التوجهات الديمقراطية الإسلامية والتي يمكن تسميتها بالإسلام الديمقراطي، والتوجهات التسلطية المغلفة بطلاء إسلام المشيخات التسلطية أو الإسلام التيوقراطي.
هذه المعركة في الحقيقة أشد ضراوة مما بات يعرف بالصراع السني الشيعي الذي تذكي نيرانه الكثير من القوى الطائفية على الجهتين.
وقبل أن نسترسل في التحليل أكثر دعونا نوضح ما المقصود بالإسلام الديمقراطي على وجه التحديد وما المقصود بالإسلام التيوقراطي.
طبعا قد يعترض بعض القرّاء بأن الإسلام هو الإسلام من دون زيادة أو نقصان، وأن في هذا التصنيف تعسفا على الإسلام، بل انحرافا فكريا وربما دينيا، لأنه ينزع عن الإسلام طابعه الجوهري والموحد.
والجواب صحيح عندي هو أن الإسلام وإن كانت له مرتكزات وأسس اجمع عليها غالبية المسلمين ولقرون متتالية من الزمن، إلا انه قد خضع في الماضي مثلما يخضع اليوم، لقراءات وتأويلات مختلفة.
وقد أبدع المسلمون فعلا في مجال التأويل وفلسفة اللغة بما لا نظير له وتجادلوا كثيرا في أصول التأويل والاختلاف، ووضع لذلك اللغويون والمتكلمون والفلاسفة والفقهاء الأصوليون والمتصوفة قواعد وضوابط وأصولا.
كما أنهم أعطوا لسلطة الإجماع دورا مهما لتخليص الإسلام من عبث أصحاب النفوذ، وهذا يعني أن ما هو صحيح ومقبول من الإسلام هو ما أجمع عليه المسلمون، أي ما اتفق عليه سوادهم الأعظم، وليس ما شرعه الحاكم أو السلطان.
طبعا هناك من الأصوليين المتشددين (ولا أقصد بالأصوليين هنا الفقهاء وعلماء الأصول، بل تيارات الانغلاق الديني) من يرفض أي شكل من أشكال التأويل والاجتهاد بزعم أن الإسلام محدد سلفا، رغم أنهم يصدرون، بوعي منهم أو دون وعي، عن قراءة غير معلنة للإسلام تتلاءم وأهواءهم وميولاتهم النصية المتشددة.
وعلى الجهة المقابلة، هناك من يدفع باتجاه نزعة تأويلية عدمية تدعي أن لا وجود لأصول أو محددات للإسلام، ومن ثم تظل كل القراءات مستباحة، بما في ذلك نظام الشعائر الذي تواطأ عليه المسلمون وأجمعوا، كالصلاة والحج والصوم وغيرها.
وهذا يعني في نهاية المطاف السفسطة وإخضاع الإسلام لشطحات المنتحلين وأهواء المغرضين، خاصة مع ضعف المؤسسة العلمية الدينية وأصحاب النظر والاختصاص، على نحو ما نرى اليوم في عديد الفضائيات ووسائل الإعلام.
لكن الاختلاف الأكبر الذي يشق العالم الإسلامي اليوم، والمجال العربي منه على وجه الخصوص، هو على صعيد التأويل السياسي للإسلام، وهو يعكس بدوره صراعا سياسيا ظل خافتا يعتمل في العمق لسنوات مديدة، إلى أن برز على السطح بصورة جلية خلال ما عرف بثورات الربيع العربي.
ثمة قراءة أولى تستمد جذورها من الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر ولها امتدادات عدة وألوان مختلفة، سواء في الوسط السني أو الشيعي، وتقوم على فرضية التوافق بين الإسلام والحداثة السياسية خاصة، أي ما بات يعرف بالآيات الديمقراطية.
وهناك قراءة تيوقراطية تمثلها المشيخات التقليدية بدرجات متفاوتة، لا سيما في الخليج العربي.
وتقوم هذه التوجهات التيوقراطية على ادعاء تطبيق الشريعة ومقولة الطاعة المطلقة لولي الأمر، وإطلاق يديه في شؤون الحكم، دون دستور أو انتخاب، واعتبار كل شكل من أشكال المعارضة السياسية خروجا على ولي الأمر يستوجب أشد العقاب.
وتعتبر المدرسة الوهابية وتفريعاتها المختلفة من التيارات السلفية التجسيد العملي لهذا التوجه الإطلاقي أو التيوقراطي.
ورغم أن الحركة الوهابية قد بدأت بالتمرد على العثمانيين الأتراك وتكفيرهم وحمل السلاح في وجههم، إلا أنها تحولت بعد ذلك، ضمن التحالف مع الدولة السعودية الأولى والثانية، إلى أيديولوجيا رسمية في خدمة الدولة، فحرّمت ما كان مباحا ومندوبا عند نشأتها وتمددها.
ورغم أن هناك توجها واضحا اليوم للتخلص من الوهابية في مهدها الأصلي، إلا أن هناك حرصا شديدا أيضا على التشبث بالإرث السياسي للوهابية ومقولاتها النظرية، من قبيل الولاء والطاعة المطلقين لولي الأمر والبيعة ورفض أي شكل من أشكال المعارضة السياسية.
وهذا يعني أن السلفية الوهابية تفقد تأثيرها المجتمعي والثقافي العام تحت ضربات ما سمي بالإصلاح بالصدمة، ولكن يتم التشبث بها بقوة على الصعيد السياسي. يتم ذلك عبر هيئة كبار العلماء والجهاز الديني الرسمي الذي يستخدم عند الحاجة، سواء لإضفاء الشرعية الدينية على القرارات السياسية الرسمية أو حجب الشرعية عمن يراد ضربهم أو استبعادهم.
والمفارقة العجيبة أن "التحررية" الاجتماعية الشكلية التي تُنتهج اليوم بصورة استعراضية، تأتي في الحقيقة لقطع الطريق أمام التحررية السياسية وسد منافذ أي إصلاح جدي.
وملخص هذه المعادلة أننا مستعدون للرقص والسهرات الصاخبة وما كان يسمى اختلاطا، أو حتى فسوقا في أدبياتنا السلفية الوهابية، ولا نمانع في إحلال سلطة هيئة الترفيه بديلا عن هيئة كبار العلماء. المهم ألا تتم المطالبة بالإصلاح السياسي أو إدخال جرعة ديمقراطية، من قبيل الانتخاب أو سن الدستور والسماح بالتداول على مواقع الحكم.
يسعى الإسلام السني التيوقراطي للخروج من مأزقه الكبير الناتج عن ضغط المطلبية السياسية، بقمع الخصوم والمعارضين، ثم الهروب إلى ضرب من الانفتاح الاجتماعي الشكلي، والاحتماء بصنف من الليبرالية الفوقية والمفروضة.
بيد أنه لن يستطيع حل المعضلة السياسية التي كانت ومازالت تواجهه: أي الحاجة إلى الإصلاح السياسي وعقلنة منظومة الحكم، تماما كما فرضت الثورة الفرنسية على الملكيات الإطلاقية في أوروبا تهذيب نفسها، رغم وجود محور مقاومة شرس كانت تقوده النمسا.
صحيح أن موجة الربيع العربي قد تم كسرها في المرحلة الأولى، ولكن مفعولها سيظل قائما لسنوات، وربما يكون مفعول هذا التناقض الصارخ بين الخيارات المجتمعية والخيارات السياسية سلبيا وقاتلا للمنظومة السياسية نفسها، أو بمثابة التداوي بما كان هو الداء.
الانفتاح الاجتماعي والثقافي عبر آلية الصدمة من شأنه أن يفقد النظام السياسي الوحدة والانسجام الذين كان يتمتع بهما في إطار شرعية الدين والتقاليد ونظام "الشريعة".
والأرجح أن تواجه هذه الأنظمة السياسية، ذات المفارقة التي عصفت بنظامي مبارك وبن علي، أي ديمقراطية الترفيه و الحفلات والسهرات والغناء، في إطار قبضة سياسية حديدية.
والانفتاح الاجتماعي يجلب معه بالضرورة مطلبية متزايدة للانفتاح السياسي، خاصة مع انتشار تقنيات التواصل الحديثة والإعلام الاجتماعي.
فالشباب الخليجي الذي درس في الجامعات البريطانية والأمريكية ويتمتع بأكبر نسب استخدام للفضاء الافتراضي، لن يقف عند حدود حفلات الترفيه والرقص والتفاهة، بل الأرجح انه سيميل اكثر باتجاه المطالبة بحرية التعبير والمشاركة السياسية.
وهذا يعني عمليا الاقتراب اكثر من الإسلام الإصلاحي الديمقراطي الذي تخوض ضده التيوقراطيات حربا شرسة، خصوصا مع تزايد الصعوبات الاقتصادية والإخفاقات الاجتماعية.
الصين نفسها واجهت هذا الأشكال واهتدت للحل في نوع من الديمقراطية وتعدد الأجنحة والانتخاب في إطار الحزب الشيوعي نفسه، بموازاة التحرير التدريجي للفضاء الافتراضي.
ولكن المعضلة أشد حينما تنعدم الأحزاب أو حتى التيارات او القوى التي تتيح قنوات للتنفيس السياسي، وربما تبدو الكويت هنا مثلا في وضع أفضل من شقيقاتها في الخليج لأنها نجحت في إتاحة مساحة من التعبير والمشاركة في ظل نظام ملكي مستقر.
ايران نفسها تمكنت من حل معضلة الإسلام الشيعي الإطلاقي عبر المزاوجة بين علوية الولي الفقيه وانتخاب الرئيس والمجالس النيابية، وهي بهذا المعنى قطعت الطريق نحو نصف ديمقراطية إسلامية على النمط الشيعي.
أما الإسلام الإطلاقي السني فإن مشكلته أشد تعقيدا، والأرجح انه يبقى يتخبط في دائرة مفرغة ما لم يتجه إلى الديمقراطية والانفتاح السياسي الجديين، بدل الهروب إلى ديمقراطية الغناء والرقص على مشارف مكة والمدينة المنوّرة.
الإسلام الديمقراطي هو ذلك التوجه الذي نشأ مع السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في القرن التاسع عشر وبلوره بقية تلاميذهم في الشرق والغرب الإسلامي.
ويقوم على افتراض عدم التعارض بين الإسلام والحداثة السياسية، عبر تقييد السلطة بالدستور والرقابة الشعبية وىلية الانتخاب واختيار الحاكم، وغيرها من الآليات والإجراءات الديمقراطية.
وقد تطورت هذه المدرسة باتجاه فكر ديمقراطي اكثر عمقا ونضجا من الناحية النظرية والسياسية. كما ان تمايزه عن الإسلام الوهابي اليوم سيعطيه قوة ومتانة اكثر ويجعله اقدر على الإجابة على التحديات والأسئلة الكبرى بعيدا عن مجادلات السلفيين وتراشقهم بالنصوص والمرويات التاريخية السقيمة.
لذا يخوض الإسلام الإطلاقي معركة شرسة على جبهتين.
الأولى نظرية والأخرى سياسية: نظريا، بالترويج لمفهوم إطلاقي للحكم، بزعم أنها تطبق حكم الشريعة وكتاب الله وسنة نبيه، ثم بالتواري خلف مفهوم الخصوصية بزعم أن لدينا حكم الشورى الخاص بِنَا والذي يختلف تماما عن النظام الديمقراطي الغربي..
وعلى الصعيد السياسي بات هذا التوجه التيوقراطي يشن حربا شعواء ضد رياح التغيير في المنطقة وهو لا يتورع من دعم الانقلابات العسكرية وبث الفوضى وكل شيء.. المهم التصدي لغول الديمقراطية المتربص.
لقد احتُوِيت موجة التغيير في المنطقة خلال خمسينات وستينات القرن الماضي بوصمها بالقومية والشيوعية المنحرفة.
وفِي ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، احتُوِي التيار الديمقراطي بالاتكاء على مقولة الخطر الشيعي الإيراني.
أما أن يرتبط الإسلام السني بمطلبي الديمقراطية والإصلاح ويغدو قوة فاعلة على الأرض فتلك هي الطامة الكبرى! لذا ليس مستغربا البتة أن يكون عداء هذه الدول للتوجهات الديمقراطية في تركيا والمغرب وتونس وماليزيا وإندونيسيا أشد بكثير من عدائهما للقاعدة وداعش وحتى للتيارات الشيعية.
والحقيقة أن كسر موجة الربيع العربي قد أعطى زخما مؤقتا لمعسكر الاستبداد السني، إلا انه أضعفه على الصعيدين المرحلي والبعيد.
فهو اليوم مجبر على التخلي عن آلية الاحتواء التي كان يستخدمها عبر توظيف الخطاب الديني والمشايخ، لصالح آلية العنف في مواجهة قاعدته الدينية نفسها، وهو بذلك أشبه بمن يقطع غصن الشجرة التي يقف عليه.