لا شك بأن أصوات المعارضة التي نددت بزيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي إلى الهند لم تُلقِ لها الحكومة الهندية بالاً، حيث استقبل رئيس الوزراء ناريندرا مودي نتنياهو استقبالاً حميماً.
ولقد صف مودي بتغريدة له علي تويتر زيارة نظيره الاسرائيلي بـ "التاريخية"، ولكن كفلسطينية مقيمة بالهند اعتبر زيارته بمثابة "الصفعة القوية" التي وجهت إلينا علي حين غفلة.
إن إسرائيل تعتبر هي المورد الثاني للسلاح للهند بعد روسيا، وهي بذلك تتفوق على الولايات المتحدة التي تأتي في المرتبة الثالثة، حيث تقدر مشتريات نيودلهي ما قيمته مليار دولار سنوياً من الأسلحة الإسرائيلية.
ووفقاً لمعطيات نشرها مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية عام 2017، فقد تنامى التبادل التجاري بين الدولتين من 202 مليون دولار عام 1992 إلى 4.16 مليارات دولار عام 2016، ويميل الميزان التجاري بينهما إلى حد كبير لصالح إسرائيل.
من الجدير ذكره، أن الهند تسعى لأن توازن بين علاقتها مع الفلسطينيين وإسرائيل، حيث صوتت الهند في الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي ضد قرار رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بحفاوة بالغة، والذي عبر قبل أسابيع عن "خيبة أمله" من رفض الهند لدعم القرار!! أثناء زيارته إلى الهند، والتي ستستمر لستة أيام، قال نتنياهو: بالتأكيد أشعر بخيبة أمل، لكن هذه الزيارة تدل في الواقع على أن علاقتنا تسير قُدماً على عدد من الجبهات".
وعلى ما يبدو فإن نتنياهو لم يقصد خيبة أمله بتصويت الهند فقط، بل بإلغاء وزارة الدفاع الهندية صفقة لشراء صواريخ "سبايك" الموجهة ضد الدبابات، وذلك قبل أيام من زيارته إلى الهند، وتقدر قيمة الصفقة بحوالي 500 مليون دولار، ومن المتوقع أن يكون المدير التنفيذي لشركة رافائيل للأنظمة الدفاعية الإسرائيلية من ضمن الوفد الذي جاء بصحبة نتنياهو . إن إسرائيل حاولت جاهدة أن تستعيد هذه الصفقة، ولكن رغبة رئيس الوزراء الهندي بإعلاء شعار "صنع في الهند" حال دون ذلك، حيث دعمت حكومته المشروع المحلي لإنتاج نفس الصواريخ.
ومن دون الإشارة إلى صفقة الصواريخ المضادة للدبابات، قال مودي إنه دعا شركات إسرائيلية للاستفادة من ميزة قواعد الهند الدفاعية من أجل "تصنيع المزيد في الهند مع شركاتنا". وتأتي هذه الزيارة بمناسبة إحياء الذكرى الـ25 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، حيث يرافق نتانياهو وفد يضم حوالي 130 رجل أعمال ممثلين عن قطاعات التكنولوجيا والزراعة والدفاع، ومن المتوقع أنه سيتم إبرام العديد من الاتفاقيات الجديدة في مجال الطاقة والطيران والإنتاج السينمائي.
إن جذور علاقة الهند بفلسطين تعود إلى ما قبل استقلالها، حيث رفضت قرار تقسيم فلسطين 181، ورفض زعيمها الوطني ألمهاتما غاندي الاستعمار والعنف، وعبر بشكل واضح عن وجهة النظر الهندية نحو القضية الفلسطينية، ففي إحدى افتتاحيات صحيفة الهاريغان الهندية عام 1938 كتب فيها غاندي، قائلاً: "إن الدعوة إلى إنشاء وطن لليهود لا تعني الكثير بالنسبة لي، إذ إن فلسطين تنتمي للعرب تماما كما تنتمي إنجلترا للإنجليز أو فرنسا للفرنسيين، ومن الخطأ فرض اليهود على العرب، وما يجري الآن في فلسطين لا علاقة له بأية منظومة أخلاقية".
إن الشارع الهندي يحاول جاهداً أن يُذكر الحزب القومي الهندوسي "بهارتيا جاناتا" بالتاريخ الذي تعمدوا إظهار تجاهله من خلال تقوية علاقتهم بإسرائيل، إذ خرجت العديد من المظاهرات المنددة بزيارة نتنياهو للهند والمؤيدة للقضية الفلسطينية، حيث توشحت بالكوفية والعلم الفلسطيني أعداد كبيرة من المتظاهرين من المسلمين الهنود، وكم كنت أشعر بالعزة والفخر كفلسطينية وأنا أردد وراءهم: "عاشت عاشت فلسطين.. تسقط تسقط إسرائيل".
لقد وجه المتظاهرون رسالة قوية للحكومة الهندية بأنه لا يمكن التلاعب بالتاريخ، مهما كثرت جهودها لتوطيد العلاقة مع إسرائيل؛ فعلاقة الهند التاريخية بفلسطين هي أعمق وأقوى من أن يتم طمسها . لقد علق نديم خان، قائلاً: "إن الحكومات تأتي وتذهب، ولكن التاريخ عندما يُكتب لا يمكن لقوة تجاهله أو قلب صفحاته، ونحن دولة غاندي ونفخر بمبادئه ضد العنف، ولا نرحب بقاتل الأطفال في بلدنا".
إن الهند تعتبر من أولى الدول غير العربية التي اعترفت بفلسطين، ولم ترتبط بعلاقة دبلوماسية مع إسرائيل إلا في بدايات التسعينيات، حيث كان مؤتمر مدريد عام 1991 واتفاق أوسلو في العام 1993 بمثابة نقطة البداية للكثير من الدول لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، خصوصاً بعد أن وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقيات معها، إذ اعطى ذلك مبرراً قوياً للهند بأن تفتح صفحة جديدة مع إسرائيل.
تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن لإسرائيل تمثيل دبلوماسي قوي في الهند، إذ مُنحَت حركة تحرير فلسطين مقرًا رسميًا في دلهي عام 1974، في الوقت الذي ظلت فيه دولة إسرائيل على قنصليتها المتواضعة خارج العاصمة الهندية.. وبعد إقامة العلاقة الدبلوماسية بين البلدين لم يتغير الأمر كثيراً، إذ ظل موقف الهند التقليدي تجاه القضية الفلسطينية قائماً على ثباته.
إن زعماء الهند كألمهاتما غاندي وجواهر لآل نهرو كانوا مناهضين للاستعمار وداعمين للنضال، حيث إنهم ساهموا في بلورة السياسة الخارجية الهندية المؤيدة لنضال الفلسطينيين من أجل التحرر الوطني. لقد اتسمت العلاقة الإسرائيلية الهندية بالفتور في بادئ الامر، واقتصرت علي الاستفادة من خبرة إسرائيل في مجال التنمية الزراعية والمجالات العسكرية، ولم يجرؤ أي رئيس هندي على التفاخر بهذه العلاقة.
إن هناك عوامل عدة ساهمت في تعميق تلك العلاقة مع إسرائيل في بداية تسعينيات القرن الماضي، منها: انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، والحظر التي فرضته الولايات المتحدة على التعاون العسكري مع الهند، وأخيراً صعود حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتشدد لسدة الحكم عام 1991، والذي يُعرف بتوجهاته اليمينية والقومية المتطرفة، ويعد مناصراً لإسرائيل بشدة. إن الهند كغيرها من الدول تبحث عن مصالحها خاصة ذات الاعتبارات الأمنية، وهو ما دفعها لتغير سياستها الخارجية للاستفادة من الخبرات العسكرية الإسرائيلية لكي تضاعف نفوذها وقوتها في وجه عدوها اللدود باكستان. أدركت الهند مؤخراً بأن إسرائيل هي بمثابة البوابة التي ستفتح أمامها الفرصة لتتفوق في المجالات الاقتصادية والعسكرية، حيث تعتبر إسرائيل رائدة في هذه المجالات، ولأن الهند تسعى لتصبح عضو دائم في مجلس الأمن فأعتبرت أنها بعلاقتها الدافئة مع إسرائيل سوف تنال رضا الولايات المتحدة الأمريكية، وتنجح مساعيها في أن يكون لها موضع قدم في السياسة الدولية.
لقد بدأت تتكشف علاقة الهند الوطيدة بإسرائيل شيئاً فشيئاً، ففي عام 2014 امتنعت الهند في مجلس حقوق الإنسان الأممي عن إدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي راح ضحيته أكثر من ألفي شهيد فلسطيني. كان هذا الامتناع يمثل صدمة للشارع الفلسطيني؛ باعتباره تحولا كبيراً في سياسة نيودلهي تجاه القضية الفلسطينية، حيث إنه وللمرة الأولى ترفض الحكومة الهندية قراراً لنصرة الشعب الفلسطيني وإدانة إسرائيل.
أما عن الصدمة الأخرى، فهي زيارة أول رئيس وزراء هندي إلى إسرائيل للاحتفال بمرور ذكرى مرور ربع قرن على العلاقات الدبلوماسية بينهما.. فالمثير للدهشة والاستغراب أن مودي لم يزر رام الله؛ مقر السلطة الفلسطينية، على غير ما ألفنا عليه الرؤساء والزعماء، حيث جرت العادة بالتوقف هناك.. وهذه السياسة تدل على أن هناك رغبة هندية في فصل علاقاتها مع إسرائيل، وعدم ربط تلك العلاقات بما بين الهند وفلسطين. وهذا ما أكد عليه بافان كابور؛ سفير الهند لدى إسرائيل، حيث قال: "لقد أصبح لدينا من الثقة السياسية ما يجعلنا نميز في علاقاتنا مع الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث نشعر أننا قادرون - اليوم - على العمل معهم مستقلين عن بعضهم البعض، و[زيارة رئيس الوزراء] هي انعكاس لذلك".
في الحقيقة، كان علي الحكومة الهندية أن تخرج بتصريح ليمتص غضب الشارع، حيث إن تأكيدات وزيرة الخارجية الهندية سوشما سوراج على موقف بلادها الثابت من القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، ربما لم تكن تكفي. إن هناك الكثير من الآراء الهندية التي تباينت بين مؤيد ومعارض للسياسة الخارجية التي تنتهجها حكومة مودي، حيث يعتبر المؤيدون بأن العلاقة مع إسرائيل تتيح فرصة لتعزيز التعاون مع قوة عالمية كبرى في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والدفاع، أما المعارضون فيعتبرون أن توطيد العلاقة مع إسرائيل هو بمثابة تخلي الحكومة الحالية عن التاريخ الغني وإرث العلاقات الهندية الفلسطينية.
على ما يبدو أن العلاقة الهندية الإسرائيلية ستصبح علاقة "حدودها السماء"، كما قال نتنياهو خلال زيارة مودي إلى إسرائيل في العام الماضي، حيث أشار قائلاً: "عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين إسرئيل والهند فإن السماء هي حدودها" !! إن نتنياهو يسعى إلى توسيع العلاقات بين البلدين لتشمل المجال السنيمائي، فمن المتوقع أن يلتقي عدداً من نجوم ومخرجي السينما الهنود في بومباي، وسيحرص على أن يقنعهم بانتاج أفلام سينمائية داعمة لإسرائيل، وبهذا سيسدد ضربة موجعة لحركة المقاطعة الاقتصادية الإسرائيلية في الهند، وضربة أخرى للفلسطينيين.
إن التعاون الهندي مع إسرائيل وصل الى نقطة اللاعودة، حيث إنه دخل في مجالات هامة كالتكنولوجيا المتقدمة والأسلحة العسكرية والفضاء والزراعة، التي أصبحت تقدر بمليارات الدولارات، وهذا يعني المصالح المشتركة والمنافع التي لا يستطيع أي طرف منهما التخلي عن جني ثمارها. ان تحول الهند من حليف أساسي للقضية الفلسطينية إلى داعمٍ استراتيجي لإسرائيل، يستدعي تحركاً من القيادة الفلسطينية لوقف خسارة هذا الحليف التاريخي في بلدٍ تعداد المسلمين فيه لا يقل عن ربع مليار. إن علي الفلسطينيين بشكل عام، والدول العربية بشكل خاص، أن تدرك مدي خطورة هذه العلاقة الدافئة مع إسرائيل، وأن لا تقف مكتوفة الأيدي بل عليها أن تُسخِّر كافة الجهود لضمان استمرارية دعم الهند للقضية الفلسطينية، حتى لا يُفسح المجال لإسرائيل بالاستفراد في علاقتها مع الهند على المستويات الاستراتيجية المختلفة.
في الحقيقة، إن الهند ما كان لها أن تمضي في تطوير علاقاتها مع إسرائيل بهذه السرعة، إلا بعد أن وجدت دولاً عربية وإسلامية أخرى قد سبقتها في هذا المضمار، فطالما أن هناك بلداناً خليجية قد سبقت في السر والعلن في إقامة علاقات وتنسيق أمني مع إسرائيل، فلن يكون هناك مخاوف على ضياع أكثر من ستين مليار دولار تجنيها الهند من عوائد العمالة الهندية في تلك البلاد.
إن مودي تجاوز في سياسة بلاده وعلاقاتها مع إسرائيل من حالة الحب بدافع المصلحة إلى وضعية التحدي والعشق الممنوع!!