الوزير لا يدري. نعم هو لا يعرف، مثلما قال الجمعة الماضية في جلسة استماع
بلجنة في البرلمان، إن حصل تنسيق أم لا بين سلطات بلاده وحركة حماس بخصوص تحقيق الأخيرة
في اغتيال المهندس التونسي محمد الزواري، في ديسمبر الماضي، الذي اعلن عن نتائجه في
اليوم السابق للجلسة.
لكن كل ما يعلمه بالمقابل هو أنه تلقى «تقريرا مفصلا من إحدى السفارات
التونسية في المنطقة بخصوص نتائج التحقيق الذي نشرته حماس «فقام بإحالته إلى رئيس الحكومة
ووزير الداخلية لدراسته، والتأكد مما اذا كانت الاستنتاجات التي قامت بها حماس، قد
تم التوصل لها بالتنسيق مع الجهات الرسمية التونسية، أم لا؟ باعتبار أن العملية وقعت
على التراب التونسي» على حد تأكيده.
ولأن المتحدث لم يكن رجلا من رجالات الصف الثاني، أو موظفا مكلفا بشؤون
الأسرة أو بملفات البيئة والرياضة مثلا، بل وزيرا للشؤون الخارجية وواحدا من أبرز المقربين
من أعلى هرم الدولة، فقد كان إقرار خميس الجهيناوي بأنه لا يعرف اكثر مما قد يعرفه
أي شخص آخر، تابع الخميس الماضي وقائع المؤتمر الصحافي الذي عقده محمد نزال في العاصمة
بيروت، لإعلان نتائج التقرير، غريبا وحتى صادما. هل حصل ذلك بشكل عفوي بسبب سوء تقدير
جعل الوزير يلقي ملفا مهما في سلة بيروقراطية ما زالت تتحكم في مفاصل تونس؟ أم أنه
فعل ذلك عن قصد ولغرض الإيحاء بتجاهل الموضوع، لقناعته بضرورة استبقاء نوع من الازدراء
المتعمد لمسألة يدرك أن التهرب منها بات أسهل طريقة لتجنب السقوط في فخاخها؟
قطعا لن يكون من السهل على احد أن يتصور أن يكون المسؤول الأول عن الدبلوماسية
عاجزا عن تقديم جواب محدد، بشأن وجود تنسيق مع حماس في ملف يخص اغتيال مواطن تونسي
على التراب التونسي من عدمه. غير أن محاولة الوزير أن يبتعد تماما وينأى بنفسه عن الموضوع،
تعد في حد ذاتها جوابا رمزيا يكاد لا يخلو من دلالة.
لقد فضل الجهيناوي أن يلجأ لمثل ذلك الأسلوب ويعتبر أن التلميح بأن لا
اثر فعليا للخلاصات والاستنتاجات التي انتهى لها التقرير، سيكون مقنعا، ما دام لم يصدر
عن المعنيين بالأمر، أي الجهات الرسمية التونسية إلى الآن أي نتائج لتحقيقاتهم، ولم
يثبت انهم تعاونوا أو تشاركوا مع حماس في التوصل لإدانة الإسرائيليين، أو كانت لهم
القناعة التامة في صحة ما قدمته الحركة من حجج وإثباتات على تورطهم بالجريمة. والأكثر
من ذلك أن كلام الوزير كان شديد الوضوح في رسم ما يشبه القطيعة الصريحة بين تونس وحماس،
حين أضاف في الجلسة ذاتها أن «الموضوع لا يهم وزارته لأنه ذو طابع امني». وهو ما يعني
بلغة أخرى أن لا مجال من حيث المبدأ لحصول أي تنسيق أو تعاون رسمي، إلا مع جهة رسمية
مقابلة، أي دولة من الدول التي تصنف على أنها شقيقة أو صديقة.
أما ما عدا ذلك فإنه من غير الممكن أن يكون هناك أي شكل من أشكال التعاون
أو تبادل المعلومات، خصوصا مع حركة تصنف أمريكا على أنها حركة إرهابية، حتى إن كان
الموضوع مرتبطا بشكل وثيق ومحدد بجريمة تم ارتكابها في حق مواطن تونسي وفوق الأراضي
التونسية.
لكن المثير أيضا هو أن إنكار الوزير كان مشوبا بقدر كبير من التذبذب والغموض،
فهو وإن أقر بداية في جلسة الاستماع البرلمانية بأنه لا يدري إن كان هناك تنسيق مع
حماس أم لا؟ فإنه عاد ليقول بعدها بأن «الموضوع حساس من الجانب الدبلوماسي، وأن الخارجية
ستتولى الموضوع وعندما تأتينا تقارير أمنية تونسية، مع إثبات وجود طرف دولي ضالع بالعملية،
فإننا سنقوم بدورنا لحشد اكبر دعم دولي ممكن للدفاع عن مصالح بلادنا»، قبل أن يضيف
أن «الأطراف الأجنبية التي قامت بالتحقيق (أي حماس) لم تقدم تقريرها بعد للجهات المختصة
في تونس» وهذا ما يعكس حالة الحرج والانزعاج الواضح للسلطات التونسية من إقدام حماس
على كشف تقريرها أمام وسائل الإعلام، في حين أنه كان الأولى والأجدى بنظرها أن لا يتم
إعلان النتائج وأن يسلم التقرير بدلا من ذلك لتونس وتظل تفاصيله سرا مكتوما ومقبورا
في أرشيفات الدولة.
لم يكن البحث والتفتيش عن دليل مادي يدين إسرائيل هو ما يعوز السلطات،
وحتى الإدانة المجردة لها لم تكن غاية أو أولوية في حد ذاتها بقدر ما كان الهم الوحيد
هو البحث في نتائج وتبعات أي موقف سياسي قد تأخذه على أمنها وسلامتها وتقدير تداعياته
المحتملة على استقرار وتماسك النظام. ولأجل ذلك فإنها اعتبرت أن الظرف لا يسمح لها
بخوض حرب كلامية أو إعلامية مع عدو يهرول عرب آخرون يفوقونها قوة ومالا ونفوذا إلى
لقائه والتقرب منه، بشكل يكاد يكون علنيا. وعلى الرغم من أن التطورات الأخيرة قد زادت
على الأرجح في تمسكها بذلك الخيار، إلا أن موقفها كان منذ البداية يسير في الاتجاه
نفسه. فقد خرج الرئيس الباجي قائد السبسي أواخر العام الماضي ليقول في خطاب رسمي بان»
المؤشرات تفيد بان أيادي خارجية وراء عملية اغتيال المهندس محمد الزواري، وأن هناك
شبهة بشأن تورط إسرائيل في العملية». ثم ظلت تلك الشبهة عالقة بين السماء والأرض منذ
ما يقرب من عام، من دون أن يظهر أي مسؤول تونسي لنفيها أو لإثباتها.
لكن الإسرائيليين لم يرتاحوا بالكامل على ما يبدو لتلميحات قائد السبسي،
وكتبت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تقول بان «ما صرح به رئيس الجمهورية في تونس كان الأكثر
وضوحا في اتهام إسرائيل بالتورط في اغتيال المهندس محمد الزواري». فقد صار مجرد الاشتباه
في أنهم هم من اغتال الزواري يثير لديهم بعض الحساسية والقلق من أن ينعكس ذلك على مساعيهم
لجر تونس، مثل باقي الدول العربية الأخرى، نحو التطبيع العلني والكامل معهم. وربما
كان تردد السلطات في توجيه اتهام ولو أولي لإسرائيل بالضلوع في اغتيال الزواري، هو
ما زاد بمرور الوقت في ضعف وتحلل موقفها وجعل الطرف الإسرائيلي يشعر بالمقابل بانه
بمنأى عن لغة التنديد والوعيد التقليدية، التي طالما سمعها في السابق حتى من تونس.
وهنا قد يكون كلام الرئيس التونسي في خطاب العام الماضي دليلا إضافيا
على ورطة تونس التي اختارت التعامل بحذر بالغ مع مسألة اتهام إسرائيل بشكل رسمي باغتيال
واحد من مواطنيها. ولان التونسيين يدركون جيدا أن هناك اكثر من جهة خارجية لم يذكرها
تقرير حماس بالاسم، غطت أو قدمت دعما ما لإسرائيل حتى تنفذ جريمتها، فإنهم لا يبدون
رغبة في المسك بكل خيوط العملية للآخر ولا يرون جدوى من مطاردة ما يتصورونها خيوط دخان.
ولكن، هل دفن الرأس في التراب سيكون هو الحل؟ وهل دم الشهيد سيذهب بالنهاية
قربانا للتقرب من إسرائيل؟ إن قال المسؤولون هذه المرة أيضا إنهم لا يدرون، فأنتم تعرفون
ولا شك بقية المثل.
القدس العربي