كتاب عربي 21

لولا سواد الليل ما طلع الفجر

1300x600
لا يخفى على العالمين بظواهر الأمور، أن المسألة الفلسطينية لم تعد – في القاموس السياسي العربي – "مصيرية / أولوية"، بل خضعت في السنوات الأخيرة للتكتكة، بحيث صار حلّها يكمن في المصالحة بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحركة التحرير الفلسطينية (حتف)، حسب ترتيب حروف اسمها، ولكنها شقلبت الحروف على عكس ما هو جارٍ في اختصار المسميات وصارت "فتح".

والآن، وقد تصالحا مؤقتا فل"يصطفلوا"، وهم أدرى بشعاب عكا، ولكن عليهم ألا يأتوا على سيرتها حتى لا تلحق رام الله بها، فالمصالحة نبعت من الحرص على "المصلحة": حماس ومعها كامل قطاع غزة، تعرضا للخنق وصارت المنافذ مسدودة، حتى في وجوه من يريدون أداء شعيرة العمرة- دعك من أمور العلاج والدراسة وأكل العيش، ولا سبيل لغزة للتنفس إلا بتطبيع العلاقات مع جماعة رام الله، المرضيّ عنهم عربيا وإسرائيليا.

فتح تعمل بهدْي الفقه السياسي العربي، الذي يقضي بأن تكون السلطة مزمنة، بمعنى أن من يمسك بمقاليدها يصبح مدمنا لها، ولا يقبل بزحزحته عنها، ومن ثم فهي تريد إلحاق غزة بالمناطق المختلة (بالخاء)، أي شبه المحررة في الضفة الغربية، تماما كما فعل شاويش اليمن علي عبد الله صالح باليمن الجنوبي، باسم الوحدة الوطنية.

وبعودة غزة إلى بيت الطاعة، سيكون من حق فتح أن تقول إن اتفاقات غزة – أريحا وأوسلو ومدريد، دخلت حيز التنفيذ مجددا لتصبح الأراضي المختلة (بالخاء) خميرة لدولة فلسطين موديل ألف وتسعمائة وسبعة وستين، إذا قام من قبره اسحق رابين، واختفى نتنياهو، بحيث يتعذر العثور حتى على اسمه باستخدام غوغل وياهو.

والقادة العرب معذورون، فمعظمهم يجلس فوق براميل من الرماد والبارود، ويدركون أن أي خلخلة للبرميل، ستولد الشرار الذي يؤدي إلى الانفجار، بمعنى أنهم يرون خلل الرماد وميض النار، ويخشون أن يكون لها ضرام لا يبقيهم ولا يذرهم.

ولهذا صرنا نشهد عمليات إجهاض الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدة دول عربية في عام 2011، فمن وجهات نظر الكثير من القادة العرب، فإن تلك الانتفاضات (لم أقل الثورات لأن الثورات تكنس وتهدم القديم لتقيم على أنقاضه الجديد)، جنين سفاح يجب إسقاطه ووأده.

ولكن باكتيريا الهبات الشعبية الحميدة تتكاثر في صمت في كل بلد عربي، ليس بانتقال العدوى، ولكن لأن الظروف مهيأة لنموها وتكاثرها، وبالمقابل هناك أدبيات الترويع من الانتفاض والمطالبة بالحريات والكرامة والحقوق، وما إلى ذلك من بدع غربية "غريبة على تقاليدنا وتعاليم ديننا".

وشعوب نشأت على ما يلخصه المثل المصري " اللي يتجوز أمي أقول له يا عمي"، صار فيها من المواطنين العاديين من يحذر المولعين بتلك البدع، بتساؤلات من شاكلة "عاجبكم اللي صاير في سوريا واليمن وليبيا؟"، والإجابة على السؤال، والتي ينبغي على كل ذي عقل أن يجهر بها هي: نعم عاجبني، رغم أن الاحتراب هناك مفروض على من نشدوا التغيير نحو الأفضل، ولكنه أدى وسيؤدي إلى فرز الأكوام، ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

طال الزمن أم قصر، سيدرك الحوثيون أنهم لن يستطيعوا إخضاع غالبية مواطني اليمن الذين يخالفونهم في جوانب كثيرة في المعتقد، لحكمهم، وتحالفهم مع علي عبد الله صالح، زواج مصلحة، أي لا يقوم على التفاهم والود الحقيقي، وصالح لا يتمتع بأي سند شعبي، بل يناصره الانتهازيون والطفيليون، الذين تضرروا من زوال حكمه، ويبذلون الأموال لشراء ذمم المرتزقة، حتى يقاتلوا لعودة صالح أو ولي عهده الى كرسي الحكم.

وفي ليبيا، فإن الصراع على السلطة بعد سقوط حكم معمر القذافي، لا يستند إلى أيديولوجيا، ومن العسف تقسيم الفرقاء هناك إلى علمانيين وإسلاميين، فقد ظلت ليبيا وطوال نحو سبعين سنة لا تعرف الأحزاب أو النقابات أو منظمات المجتمع المدني (قال القذافي في لغو صحيح الإسناد: من تحزّب خان)، ولا تقوم تنظيمات ذات توجهات سياسية محددة المعالم، في غضون سنوات قليلة.

وفي تقديري فإن جوهر النزاع في ليبيا جهوي/ مناطقي، و"النُّخَب" هي التي تؤجج نيران الفتنة الأهلية، وتسعى لفرض وصاية على شعب بدأ يتسيّس خلال الأعوام الستة الماضية، ومن ثم فالتوصل إلى تسوية ترضي القوى الحقيقية على الأرض ممكنة، لأن النخبة تلك أقلية بينما أهل المناطق أغلبية، وبالإمكان التوصل إلى صيغة حكم (فيدرالي مثلا) ترضي جميع الأطراف.

سوريا راحت فيها، ليس فقط لأن الفصائل المسلحة انشغلت بتحرير المحرَّر، أي صار هم كل فصيل يحمل السلاح، انتزاع الأراضي التي انتزعها فصيل آخر من القبضة الأسدية، وليس محاربة الجيش النظامي، بل أيضا لأن أطرافا عربية ترى أن بدائل بشار الأسد ستكون وبالا عليها وعلى المنطقة
ولكن ومهما بدت القوى الساعية للإطاحة بالحكم الأسدي منهكة، وصار للكثير منها ولاءات خارجية، فإن نظاما دكّ جميع المدن والقرى غير قابل للاستمرار، ومهما حشرت مختلف الدول أنوفها في الصراع السوري، فإن من سيحسم الصراع هي القوى الشعبية، ولا يستقيم عقلا أن يقبل سوري راشد، ببقاء بشار وبطانته في الحكم، وبالتالي فالتسوية التي يتم الترويج لها بأن يظل بشار حاكما لفترة انتقالية، هي من قبيل مداواة السرطان بالفاليوم.

والشاهد هو أن الظلم ليلته قصيرة، ومن يريد أن يشهد الفجر الصادق، يكون حريصا على مواصلة السير في النفق المظلم وتحمُّل العثرات والكبوات، وإدراك أنه ما من شعب يعيش حاليا في أحضان الحرية، إلا ودفع "مهر الدم".