أكتب مقالاتي صباحاً في الأغلب الأعم، وكنت قد قررت الكتابة عن ظاهرة "عمرو خالد"، على خلفية صورته "خاشعاً"، قبل أن أفاجأ بصورة أخرى له، وقد تحولت إلى "صورة اليوم"، في الوضع غاضباً، بينما أحد الأشخاص يرفع في وجهه شارة "رابعة" الشهيرة، وهي الصورة التي طالب بعض المعلقين، ليس فقط من النشطاء، ولكن من الصحفيين أيضاً، أن تكون صورة الموسم!
ولا أخفي أن ساعتين من وقتي ضاعوا، في متابعة الإحساس بالانتصار، حيث عمت البهجة في ربوع السيوشيال ميديا، لهذا الانتصار التاريخي، وعلى قاعدة "لن نهزم بعد اليوم من قلة"، واعتبر كثيرون أن في غضب "عمرو خالد"، ما يستدعي الشماتة، ويؤكد على عظيم الانتصار الذي تحقق، وكأنه السيسي، وكأن رفع شارة "رابعة" في وجهه، هي بشارة نصر الله والفتح!
إنه سلوك الهزيمة، ممن هزموا في ساحة الوغى، فذهبوا ليحققوا انتصاراً بالصورة، عندما تغني الأحلام عن الواقع، وتغني الصورة عن الأصل، ومن شيوع الاحتفاء بالصورة، لم يبق إلا أن يضرب أحدهم بعصاه، وهو يقول: "فُتحت روما.. وتحطمت حصون كسرى"!
من الذي أوحى للقوم أن الصورة تغني عن الانتصار على الأرض، وأن غاية المنى هي "المكايدة" لعمرو خالد، وفي حمله على الغضب ما يمثل انتصاراً على الانقلاب في مصر وضواحيها.
لا شك أننا كنا في مشهد تمثيلي، أتقن كل "فريق العمل" القيام بأدوارهم، على خير وجه، وانغمس كل منهم في دوره، حتى صرنا بحاجة إلى ما يذكر الممثلين، بأن المخرج صاح بصوته الجهوري: "Stop"، وعلى كل منهم أن يتوقف عن التمثيل، وأن يعود إلى طبيعته، وإلى شخصيته الحقيقية!
فليس "عمرو خالد" هو شخص "عبد الفتاح السيسي"، أو حتى رئيس بعثة الحجاج المصريين، وليس من هم ضده، يعادونه حقاً لحد الشماتة، وليس هو صاحب إرادة، تجعل منه شريك في مجزرة "رابعة"، حد الاعتقاد بأن رفع شارتها في وجهه يحزنه فعلاً!
في غمرة الانغماس في تأدية الدور، نسي الممثلون جميعهم، أن "عمرو خالد" هو ابن مدرسة الإخوان، فليس سراً أنه كان عضواً منظماً في الجماعة، قبل أن يذيع صيته، ويصبح نجم الدعوة في بعض الأندية، مثل "نادي الجزيرة"، و"الصيد"، فاخترق بذلك، الطبقة العليا، عندئذ قررت الجماعة أن تطلق سراحه، وأن تحله من العلاقة التنظيمية، لتسهيل مهمته وحتى لا تنتبه له الأجهزة الأمنية، التي قد تتساهل مع "نجومية الفرد"، لكن لا تقبل بنجومية من يعبر عن تنظيم، أو يصب أداؤه في خدمة جماعة أو حزب!
ولم يكن "عمرو خالد"، هو أول من يخترق هذه الطبقة، التي توصف بأنها "كريمة المجتمع"، فقد فعلها قبله الشيخ عمر عبد الكافي، الذي كان وزير الداخلية نفسه عبد الحليم موسى، يحرص على الصلاة خلفه، في يوم الجمعة، وكان من أبناء المسؤولين من هم يحرصون على حضور دروسه، وإذا كانت مرحلة التسعينات شهدت ظاهرة الفنانات المعتزلات، فقد تردد أنه كان يقف وراء اعتزالهن!
مرحلة الدكتور عمر عبد الكافي، كانت هي المرحلة الوسيطة، في ظاهرة الدعاة النجوم، فالأولى كان يمثلها دعاة معارضون، مثل الشيخ عبد الحميد كشك، والمحلاوي، ويوسف البدري، وعبد الرشيد صقر!
وكان الخطة الأمنية في عهد مبارك تقوم على المنع من المنبع، فلا يعود الشيخ كشك لمنبره أبداً، ويعود المحلاوي باتفاق خاص مع وزير الأوقاف الأحمدي أبو النور، ورغم التزامه ببنود الاتفاق غير المكتوب، فقد تمت ترقيته في عهد الوزير التالي، ليمنع من الخطابة، فلا يشعر بذلك أحد، إلى أن يحال للمعاش، فيصبح مجرد ذكرى، لا يذكره أحد إلا في السنوات الأخيرة من عهد مبارك، فقد دب فيه الحماس من جديد وصار جزءا من الحراك الثوري، وواحداً من أئمته!
أما الشيخ عبد الرشيد صقر، فظل يخطب على مسجد "صلاح الدين" في المنيل، قبل أن يمنع من الخطابة، بقرار من وزارة الأوقاف بعد ترقيته أيضاً!
كان الأمن يبحث عن سبيل لتصريف المشاعر الدينية بعيداً عن أن تكون في مجرى حالة الغضب السياسي، فوجد ضالته في نجوم المنابر في هذه المرحلة، ممن لم يكونوا جزءا من حالة الغضب الديني، واختلفوا في المنطلقات والأفكار الدينية، خلاف الشيخ عمر عبد الكافي في مسجد "أسد بن الفرات" في "الدقي"، عن الشيخ "فوزي السعيد" في مسجد "التوحيد" في رمسيس، عن الشيخ "حسن شحاتة" في مسجد "كوبري الجامعة"!
كان الشيخ "فوزي السعيد" يدرك، أنه ما دام بعيداً عن وسائل الإعلام فهو في "الأمان"، حتى وإن ظل الناس يأتون لسماع خطبته من كل مكان، وصار مسجده متعدد الطوابق يمتلئ بالمصلين في يوم الجمعة، ويتمدد حضورهم في الشوارع المحيطة، لدرجة أنهم كانوا يحتلون جانباً كبيراً من شارع رمسيس!
أما حسن شحاتة، فعرف طريقه إلى التلفزيون، قبل أن يهاجمه "صلاح منتصر" في عموده بجريدة "الأهرام" فيتم منعه!
في حين كانت مشكلة "عمر عبد الكافي" في أنه وصل للنخبة وللنجوم، فغزا اسمه بيوتهم!
وفي وقت لاحق فرضت شعبية "فوزي السعيد"، نفسها على الإعلام المصري، وعرف المراسلون الأجانب طريقهم إلى مسجده، وأمام هذا التزاحم الإعلامي فقد رفض التعامل مع الإعلاميين، فمن أراد أن يكتب عنه، فليسمع خطبه، ويصلي وسط جمهوره، لكنه لن يقبل المقابلات الإعلامية، إذ كان يدرك أنها "المحرقة"!
لقد ضبط "حسن شحاتة"، متلبساً بعلاقاته مع الإيرانيين، وكان قد تُرك لسنوات يهاجم الصحابة، ويسخر من أم المؤمنين عائشة على المنبر، بدون أن يؤاخذ أمنياً، لكن بعد تشيعه الكامل، لم يكن يجوز معه التسامح فتم اعتقاله، وأمام جهات التحقيق انهار تماماً، وبدا أنه نادم على كل شيء، لكن نيابة أمن الدولة بدت كما لو كانت تجد لذة في أن تشاهده هكذا، فمع كل ندمه وهوانه، يتم التمديد له، إلى أن أخلى سبيله فسافر إلى إيران ولم نسمع بأنه عاد للقاهرة، إلا عندما قتل على أيدي الدهماء في إحدى القرى في فترة حكم الرئيس محمد مرسي!
لقد وضع أمنياً سقف للشهرة، لكل فئة في المجتمع، لا يسمح لأحد بأن يتجاوزه، وإن لم يكن محسوباً على المعارضة، وقد حاولت السلطة مبكراً تشويه صورة الشيخ الشعراوي، عن طريق أحد الصحفيين، وبعض الأمنيين، وفشلت، فانتظرت حتى يموت، فكان كل ما يشغلها ألا تكون الجنازات، إحدى العلامات الدالة على وجود شعبية لأحد، وكان القرار الأمني ألا تخرج جنازة الشيخ الشعراوي من أي من المساجد بمصر، فخرجت من قريته "دقادوس"، وطلبت وزارة الداخلية عدم خروج جنازة فؤاد سراج الدين زعيم حزب الوفد من مسجد عمرو مكرم بوسط القاهرة، فلما أصر الحزب على خروجها منها، أشرف وزير الداخلية حبيب العادلي، على إفساد الجنازة بنفسه، وتم الاعتداء من قبل جنود الأمن المركزي على المشيعين بمجرد خروجهم من المسجد، ونال شيخ الأزهر من الاعتداء جانباً.
كان وزير الداخلية يجلس في سيارته غير بعيد، ليرى بنفسه تفريق الجنازة، حتى لا يقال أن جنازة سراج الدين كانت مهيبة، وهى عقدة توارثها العسكر منذ جنازة زعيم الوفد مصطفى النحاس في عهد عبد الناصر، وجنازة المرشد العام للإخوان عمر التلمساني في بداية عهد مبارك!
لقد تم تحريض إبراهيم عيسي ليقود حملة تشهير بالشيخ عمر عبد الكافي في مجلة "روزا اليوسف" للتمهيد لمنعه من الخطابة. وتم اعتقال الشيخ فوزي السعيد في قضية تنظيم "الوعد" والاتهام أنه يقدم مساعدات للفلسطينيين أو شيء من هذا القبيل، وبعد سنوات في السجن خرج ممنوعا من الخطابة، وقد تم ضم مسجده لوزارة الأوقاف!
كانت الساحة يجري تفريغها من كل عمل جاد، لتستقبل نماذج من الدعاة النجوم، ليسوا على شيء، ويشيعون تدينا لا يفضي إلى شيء، وكان يتصدر المشهد من وصفوا بالدعاة الجدد، الذين هم ظاهرة شكلية، فارغة من المضمون، ولأول مرة نشاهد دعاة، لا يمكن لأحدهم أن يلقي خطبة الجمعة، أو أي خطبة متماسكة، أو جملة مستقيمة، أو يملك قدرة على الإفتاء، حتى في القضايا البسيطة التي لا تحتاج إلى عقلية فقيه!
وكانوا هم الأليق بمرحلة عنوانها التسطيح في كل شيء، فعمرو خالد أشهر داعية، و"ممتاز القط" هو أهم كاتب، و"مجدي الجلاد" رئيس تحرير، و"تامر حسني" هو مطرب المرحلة، و"الهام شاهين" فنانة مصر الأولى!
لم يكن الدعاة الجدد، ظاهرة دينية، وإنما كانوا ظاهرة تلفزيونية، حيث يجدون الكاميرا تدب فيهم الحياة، وكانت لديهم قدرة عجيبة في تحويل أي موضوع إلى مهرجان!
كانت الدنيا مقلوبة رأساً على عقب، للتطاول الذي جرى ضد الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنمارك، وبدت كوبنهاجن مستعدة إزاء حالة الغضب لرد الاعتبار وتجريم ما جرى، قبل أن ينبعث "عمرو خالد"، فيبيع بالرخيص، وتقريبا بدون ثمن، فيعلن أنه سيذهب إلى الدنمارك، من أجل تحقيق المصالحة بين الشعوب!
وبالفعل سافر إلى هناك، دون أن يرى الشعب الدنماركي أو يراه، فقد ذهب لقاعة في فندق، كانت معه كاميراته، وجمهوره الذي اصطحبه معه في ذات الطائرة، (عدة الشغل)، وتحدث في القاعة وعاد من هناك يعلن عن تحقيق انتصارات عظمى تمثلت في أن صورته كانت غلاف إحدى المجلات الدنماركية. فهذا هو المراد!
لكن، ورغم أن دعوته فارغة من أي معنى، فإن أجهزة الأمن وجدت أن نجوميته وصلت للسقف المقرر، فأمرته بأن يغادر مصر، وقد فعل، لإفساح المجال لدعاة من نفس المستوى، مثل معتز مسعود وغيره.
ليعود عمرو خالد بثورة يناير، دون أن تعود له جماهيره، فعندما سقط الصنم، سقطت معه كل صنائعه، ليقف الجميع على أننا كنا أمام مشهد مزيف، وأن شعبيته لم تكن إلا مجرد إفراز لمرحلة الاستبداد، فكان هناك من يبحثون عن التدين الآمن، الذي لا يضعهم تحت طائلة قانون الغابة!
مع جو الحرية، كانت الشعبية للدعاة الجادين، وصار حازم أبو إسماعيل هو نجم المرحلة، وتراجع دور عمرو خالد ومن هم على شاكلته، عندما فتحت الساحة للجميع، فبحث عن أي وجود، فكان أن أسس حزباً سياسياً، وكل هدفه أن يدعو إلى أي لقاء رئاسي، فأزمته تتلخص في حرصه أن يكون "في الصورة"!
وهزمت الثورة، ونجح الانقلاب، فلم يجد أهمية في استمرار الحزب، فأعلن استقالته منه، وقد ظن أن زمانه قد عاد، وبدون محاذير أمنية، فقد استعان به العسكر في عملية تثقيف ضباط الجيش، وشاهدناه وهو في مشهد تمثيلي مفتعل يؤدي التحية لهؤلاء الضباط، كما شاهدنا المفتي السابق "علي جمعة" وهو يقول لهم "اضرب في المليان"!
لقد عادت لعمرو خالد دولته، لكنه لم يعد، فالمزاج العام تغير، ولم يعد هو من نجوم المرحلة وهذه سر أزمته، فذهب يتسول مشاعر الناس، بالدعاء لمن يتابعون صفحته، من البنين والبنات، ويرى كاميرا منصوبة، فيترك الكعبة ويعطيها ظهره، ويمثل دور الخاشع، فيظهر أمامنا ممثلا يفتقد لأي موهبة، فلا ينسى وهو يدعو أن تبدو عينه على الكاميرا، غير معظم لشعائر الله!
وليس لـ "عمرو خالد" قيمة حقيقة عند الناس، أو عند السيسي لتتم المكايدة له بإشارة "رابعة"، وباعتبار أن رفعها في وجهه انتصار على الانقلاب في موقعة "التل الكبير"، وكما اندمجنا في دور المنتصر، فقد اندمج هو في دور الغاضب من شعار رفع في وجهه، وقد انتصر وهو في الدور غاضباً، لأنه كسب مرتين: الأولى عندما يبدو أمام النظام الانقلابي أنه هدف للإخوان، ويرون في مكايدته انتصاراً لهم على عموم الانقلابيين، أما الثانية ففي رد فعله الغاضب على هذه الإشارة!
هناك قول مأثور للإعلامي أحمد منصور، وهو أن الانتماء للإخوان "ختم"، غير قابلة للمحو، وإن ترك من تم ختمه الجماعة. وحتى إذا رأى بعض الأمنيين في عضوية "عمرو خالد" في الجماعة في السابق ما يحول دون إدماجه في المرحلة، فإن ما حدث هو رمية بغير رام، ومن غير حول من "عمرو" أو طول!
محظوظ "عمرو خالد"!