«يجود علينا الخيِّرون بمالهم».. استحضرني بيت الشعر العظيم هذا بنصفه الأول، وأنا أقرأ «تغريدة» أطلقها شخص يلقب نفسه بـ«داعية إسلامي»، إنه السعودي أحمد بن سعيد القرني. قد لا يكون شخصا مهما، لكن تنبعث من تغريدته، رائحة تزكم الأنوف، رائحة مؤامرة كبيرة يحيكها «عرب ترامب»، وإسرائيل والولايات المتحدة، تبدأ بالعدوان على المحرمات الفلسطينية عبر التشكيك بالتاريخ الفلسطيني، وتشويه تضحيات الشعب الفلسطيني وزعزعة أركان النضال الفلسطيني الممتد لأكثر من قرن من الزمن.
إن تغريدته هذه لا يمكن قراءتها بمعزل عما يجري، فهي في توقيتها تنسجم مع التطورات في الرياض، منذ الانقلاب في «البلاط الملكي»، وعن التوجهات في ظل العهد الجديد، للتطبيع مع دولة الاحتلال، التي ابتدأت منذ زمن بلقاءات سرية بين الأمير تركي بن فيصل المدير الأسبق للمخابرات السعودية ـ بدعوى أنها غير رسمية ولا تمثل النظام ـ مع مسؤولين إسرائيليين في أمريكا وأوروبا، بحجة إقناعهم بما يسمى مبادرة السلام العربية، التي كتب نصها الصحفي اليهودي الأمريكي توماس فريدمان.
ثم خرجت الاتصالات من السرية إلى العلن والتبرير هو نفسه، المساعدة في حل القضية الفلسطينية! ولحق بالأمير تركي، اللواء المتقاعد أنور عشقي، الذي يمثل شريحة ممن يدعون الثقافة والواقعية، أو من أطلق عليهم «السعوديون الجدد»، بلقاءات سرية أيضا وتتويجها بزيارة إلى إسرائيل، بذريعة زيارة الأراضي الفلسطينية، بينما كان التركيز على لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين. وتواصلت اللقاءات سرا وعلنا. وازدادت فجاجة بعد أن أطلق «السعوديون الجدد» هاشتاغ «وسم» «سعوديون من أجل التطبيع»، بعد الزيارة «التاريخية» للرئيس ترامب، التي كلفت الشعب السعودي أكثر من400 مليار دولار في صفقات مجهولة الهوية.. وهو الشرط الذي وضعه ترامب للقمم الثلاث في السعودية. وهو ما قاله الرئيس الأمريكي نفسه في مقابلة مع شبكة «سي بي أن»: «قلت للمسؤولين السعوديين يجب عليكم أن تشتروا عتادنا وأسلحتنا وتستثمروا في بلدنا، وإلا فإنني لن أزور الرياض»، ففعلوا ما شاء وعقدوا صفقة سلاح بقيمة 110 مليارات دولار، أي أكثر من الدخل السعودي السنوي من النفط التي قدرها وزير المالية السعودي بحوالي 300 مليار ريال.
وأثارت تغريدة أحمد القرني الاستياء، بل الغضب الأعظم في أوساط المغردين من الفلسطينيين وملايين العرب والمسلمين الحريصين على دينهم ومقدساتهم، خصوصا المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأرض معراج النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» إلى السماء.
نعود إلى بيت الشعر أو نصفه، وعلاقته بأحمد القرني.. فهو يجود بما ليس لديه ولا لبلده ولا الجماعات التي ينتمي إليها أو يمثلها، إنه يجود لليهود بالمسجد الأقصى ويطالب الفلسطينيين بالتنازل عنه لهم. ويبرر دعوته متسائلا «من أعظم حرمة عند الله، دم المسلم الفلسطيني أم المسجد الأقصى؟ من قال إن الموت في سبيل الأقصى استشهاد؟».
فإذا كان القتال والاستشهاد في سبيل تحرير الوطن وأولى القبلتين، ليس استشهادا فهل كان «إرسال الشباب السعودي إلى مصيرهم المحتوم في أفغانستان جهادا في سبيل الله؟ وهل إعلان الحرب على اليمن وهدر أموال المسلمين وقتل آلاف الأبرياء جهاد في سبيل الله؟ أم إن إنفاق مئات المليارات على سلاح لا يستخدم ضد عدو، بينما عامة السعوديين يتضورون جوعا، هو الجهاد في سبيل الله؟ فلماذا لم يرفع القرني هذا صوته اعتراضا على هذه الأفعال والبذخ والتبذير في بلاده؟
وتابع: «لن يتخلى اليهود عن الأقصى، ولن يرسل العرب جيشا لتحرير القدس، وما تفعله حماس تهلكة ولم يأمر بها الله». فهل هذه خطيئة يتحملها الفلسطينيون؟ أم إن تقاعس العرب والمسلمين عن الجهاد في فلسطين، هو الجهاد في نظره؟ وهل يعني ذلك أن على الشعب الفلسطيني الاستسلام والقبول بواقع الاحتلال والإرهاب؟ ألم يكن الأولى به أن يلوم هؤلاء وليس الشعب الفلسطيني؟ إلا إذا كان لدى القرني مخطط تستضيف المملكة بموجبه الفلسطينيين حتى «يقضي الله أمرا كان مفعولا».
وزاد: «الشعوب هي الضحية التي يسوقها الطغاة إلى المذبح، هاتوا دليلا من القرآن والسنة يقول بقتال العدو، وأنتم في ضعف ودون عدة وعتاد».
وهل شهداء الأقصى الثلاثة هم أول الشهداء في النضال الفلسطيني؟ وهل يلام الفلسطينيون في ذلك فهم يقاتلون بما لديهم من وسائل ولا يستهان بها.. فالسلاح ليس طائرة «أف 16» فشلت بعد نحو 3 سنوات من العدوان المتواصل على اليمن في إلحاق الهزيمة ببضعة آلاف من الحوثيين.. السلاح هو الإرادة والعزم والقدرة على المقاومة بجميع أشكالها، وأتحدى أحمد القرني أن يأتي بآية واحدة يدعو الله فيها إلى الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وإلا لما نجح النبي محمد عليه الصلاة والسلام بدعوته. ألم يكن يمثل فئة قليلة أمام قوة طاغية؟ فـ«كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».
وأوضح الداعية السعودي شروط ما سماها عودة المسجد الأقصى، قائلا: «من شروط عودة المسجد الأقصى، الاعتصام والاجتماع وإعداد القوة، وأنتم لا معتصمين ولا متوحدين ولا إعداد ولا قوة، فعن أي تحرير تتحدثون؟». إن عودة القدس والجهاد في سبيلها هو فرض عين على كل مسلم، فلا تظنن، ولو للحظة، أن الفلسطينيين «الحيط الواطي».. وحذار حذار من غضبهم.
وتتناسق هذه الهجمة من مصادر تدعي الدين بعد هجمة «السعوديون الجدد» على الفلسطينيين واتهام فصائل فلسطينية بالإرهاب، مع التسريبات الجديدة عن اتصالات غير مباشرة بين النظام السعودي وإسرائيل. والغريب في هذه التسريبات أنها تنشر لأول مرة في موقع سعودي قريب من النظام. هم يزعمون انها اتصالات غير مباشرة، وما كانوا بحاجة للكشف عنها لو لم يكن غرضها التحضير للخطوة المقبلة، وهي خطوة الخروج إلى العلن.
وينقل الخبر أيضا عن مسؤول سعودي كبير القول، إن السعودية لا تمانع وضع البوابات الإلكترونية على مداخل الحرم القدسي، بما يتناقض مع المطالب الفلسطينية، وما يؤكد ما أعلنه وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد إردان، وهو أن نصب البوابات الإلكترونية تم بتنسيق مع دول عربية وإسلامية، عبر اتصالات مباشرة أو عبر طرف ثالث. ولم يكتف الموقع السعودي بهذا الكشف، بل أكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دعا المسؤولين السعوديين لزيارة المسجد الأقصى والاطلاع على الأوضاع على الأرض. وربما تكون هذه الخطوة الثالثة، طبعا من «منطلق الذود عن الأقصى».
وأخيرا، إذا ما أذعن الفلسطينيون شعبا وقيادات وتنظيمات وفصائل ـ وهذا غير وارد بالمطلق ولنا في التاريخ عبر ـ وتراجعوا عن موقفهم الرافض للبوابات الإلكترونية، وقبلوا بالأمر الواقع، كما يعول الإسرائيليون، فلنقرأ على أنفسنا وعلى فلسطين وعلى القدس وعلى الأقصى السلام. وتذكروا فقط أن هذه هي معركة القدس الأخيرة والحلقة الأخيرة من حلقات فرض سيادة الاحتلال الكامل على القدس ومقدساتها. وعندئذ لا تلوموا إلا أنفسكم، بعدما تخلى عنكم «الإخوة والاشقاء» الذين وجدوا في إسرائيل «أخا لم تلده أمهاتهم».
وأختتم بالقول للقرني ولـ«السعوديين الجدد» و«المتأسرلين»: منذ متى هذا الحرص على الدم الفلسطيني، إذا كنتم غير حريصين على الوطن الفلسطيني؟ فلا دم فلسطيني من غير وطن فلسطيني ولا وطن فلسطيني من غير دم فلسطيني. وسيبقى الشعب الفلسطيني الصخرة التي تتكسر عليها كل المؤامرات.
القدس العربي