أحدثت التسريبات الأخيرة لمدير “قناة نسمة“ التونسية عاصفة عاتية من ردود الأفعال في الأوساط التونسية على اختلاف أنواعها ومشاربها لأنها كشفت بالصوت الحي حجم الجرائم التي يرتكبها ما دأب التونسيون على تسميته "إعلام العار”المحلي.
تتمثل أطوار الجريمة في إجتماع مغلق عقده مدير القناة "نبيل القروي” بصحفيي "نسمة” وهو يوجه إليهم خطة العمل القادمة والمتمثلة في شيطنة منظمة الرقابة التونسية "أنا يقظ". الحديث موضوع التسريب المسجل كان على قدر كبير من الخطورة التي ترتقي إلى حجم الجريمة الموصوفة لأنه يتضمن طريقة عمل القناة في تشويه الخصوم وتأليب الرأي العام وصناعة الفوضى وبث الرعب في أفئدة المعارضين. مدير القناة ذكر بالتفصيل طريقة تكليف صحفيين مأجورين ذكرهم بالإسم من أجل شيطنة هذا الطرف أو ذاك طالبا من الفريق العامل عنده ضرورة تلفيق الأكاذيب التي تصل إلى الاعتداء على أعراض الناس وحرماتها من أجل الانتقام والتشفي وتأليب الرأي العام ضد أطراف بعينها.
منظمة "أنا يقظ“ تعرّف نفسها بأنها "منظمة رقابية تونسية غير ربحية ومستقلة تهدف إلى الإشارة إلى الفساد المالي والإداري ودعم الشفافية وقد تأسست في 21 مارس 2011 ". لقد نجحت هذه المنظمة في كشف العديد من ملفات الفساد ومنها ملف فيه اتهامات للأخوين “القروي“ الذي ورد في تسريبات “بنما وسويسرا” وقد كشف عن حجم إمبراطورية “قروي أند قروي”المالية وخاصة حجم القروض والديون الضخمة المتخلدة بذمة شركات "القروي“ لصالح البنوك الوطنية ومنها بالخصوص "بنك الإسكان ".
بناء عليه قدمت منظمة “أنا يقظ “في تقريرها توصيات خاصة للسلط التونسية من أجل تتبع أنشطة القناة لمكافحة التهرب والاحتيال الضريبي كما نصت التوصيات على ضرورة مراقبة التمويلات المشبوهة لقطاع الإعلام بإعتباره مرفقا حساسا وبالأخص في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد.
كشف التسريب الصوتي سلوك عصابات الإعلام التي تمكنت من المشهد التونسي بواسطة الأموال المشبوهة التي تم ضخها من الخارج لممارسة أشرس أنواع الترويع الاجتماعي والنفسي وذلك طيلة السنوات الست التي هي عمر الثورة التونسية.
كثير من القنوات التونسية الأخرى الخاصة والحكومية لم تتردد طوال السنوات الفارطة في محاربة المدّ الثوري وفي نشر كل أنواع الأكاذيب والبرامج الصادمة والحملات المشبوهة للنيل من قيم المجتمع ومحاربة السلم الاجتماعي وتهديد الأمن القومي ومعاداة العقيدة التي يدين بها شعب تونس المسلم والمسالم.
الثابت الأكيد اليوم وبعد كل التسريبات السابقة هي أن تونس الثورة تقع في يد مجموعة من العصابات السياسية والإعلامية والمالية الجديدة التي تستحوذ على المشهد وتقرر مصير أجيال دفعت أرواحها ثمنا للتخلص من نظام العصابات السابق الذي يمثله الرئيس الهارب بن على وعائلته.
ليس الإرهاب الحقيقي فيما يروج له إعلام الدولة العميقة من مجموعات غامضة هنا وهناك ثبت تورط الدولة العميقة نفسها في تسليحها وتدريبها واستدراجها بقدر ما يتمثل الإرهاب اليوم في خطورة المشهد الإعلامي الذي تموله أطراف وقوى غامضة هدفها ضرب الثورة التونسية وتهديد المسار الانتقالي ومنع التجربة التونسية من بلوغ نقطة القطع مع منوالات الاستبداد العربي وتطبيقاته.
لا يشك أحد اليوم في تونس في أن لوبيات الفساد هي المتحكم الحقيقي في مفاصل الدولة وفي ثرواتها التي تُنهب كل يوم أمام أنظار الشعب وأنظار مجلس نواب الشعب الذي تسيطر دولة الظل على قسم كبير منه.
أما قصر قرطاج فقد تحول إلى مظلة حامية لمجموعات النهب المحلية كما صرحت بذلك أحد قضاة تونس عندما أكدت في تصريح إذاعي شهير على أن الأوامر كانت تصدر من قصر قرطاج من أجل منع تنفيذ أحكام قضائية ضد رجال أعمال بعينهم ممن تورطوا في نهب المال العام وفي تبديد الثروات الوطنية وبيعها للشركات الاستعمارية الأجنبية.
إن الانحدار الكبير الذي يعرفه المشهد التونسي العام مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية في الجنوب بمدينة "تطاوين”أو في منطقة الوسط والشمال الغربي بكل من مدن "الكاف”و"قفصة”ينذر بعواصف قادمة قد تكون أشد وأخطر ألف مرة مما عرفته تونس في شتاء 2010.
ففي هذا الوضع الحرج الذي يتطلب قدرا كبيرا من الحزم في التعامل مع شبكات الفساد التي دمرت كل إمكانيات النهوض والتنمية والتشغيل والخروج بالبلاد من عنق الزجاجة تزيد الشبكات الإعلامية من تأجيج الوضع عبر الممارسات الإجرامية الخطيرة التي تؤكد كل يوم أن التسامح مع الفساد والفاسدين وعدم تطبيق القانون بالصرامة اللازمة يمثل أخطر المغامرات والمجازفات التي يمكن للثورة أن ترتكبها.
إن كمّ التراكمات المحبِطة التي تعرفها البلاد يوما بعد يوم مع انكشاف كلي لحجم الجريمة الإعلامية والاقتصادية في حق الشعب التونسي يضاف إلى هذا تحالف نخب العار التونسية كلّها مع منظومة الفساد ينبئ بحتمية تجدد الموجة الثورية التي لن تفشل هذه المرّة في إجتثاث كل أنواع الإرهاب الذي يهدد التجربة التونسية وعلى رأسها الإرهاب الإعلامي.