المسألة هذه المرة ليست شغبا عاديا على الموقع الإيراني، وليست نأيا بالنفس عن الولي الفقيه، فما أقدم عليه مقتدى الصدر، عبر إسدائه نصحا لبشار الأسد بالتنحي، هو خروج لزعيم «الحوزة الناطقة»، من نوع ما يُقدم عليه «مصلحون» انتحاريون، حين يقولون كلمتهم ويمضون.
وجه الصدر سهاما للاستثمار الإيراني الأول في المشرق، والسهام شيعية هذه المرة، وهنا تكمن خطورة ما أقدم عليه الرجل؛ فالنظام الإيراني استثمر بكل طاقته هنا، أي في بلورة وجهة واحدة للتشيع، بدءا من إيران ووصولا إلى لبنان، مرورا بالعراق وسوريا. والصدر إذ وجه نصحه، وأدرجه في سياق غير منسجم من الوقائع والدوافع، حرص على أن يكون طلب التنحي العنصر الوحيد الواضح في بيانه. واليوم صار بالإمكان القول إن بين الشيعة من لا يرى أن بشار الأسد هو مستقبل سوريا، وفي ذلك مساس حقيقي بالوجهة الإيرانية.
الصدر سبق له أن شاغب على الموقع الإيراني في العراق، لكن شغبه لم يرق إلى مستوى الانشقاق، وغالبا ما عاد الحرس الثوري ونجح في إعادته إلى موقعه. في الانتخابات العراقية لم يخرج السيد عن التحالف الشيعي، كما أنه شكل رافعة الموقع الإيراني في العلاقة مع الأمريكيين خلال وجودهم في العراق، إذ مثّل الرجل «المقاومة الشيعية للاحتلال» المدعومة من نظام طهران، التي تعاونت في إحدى المراحل، مع «المقاومة السنية» المدعومة من نظام دمشق. وحين افترقت المقاومتان تحول التيار الصدري إلى أداة الفتنة التي أرادها الحرس الثوري الإيراني، وسيلة لتبديد نفوذ واشنطن في بغداد. لكن، على رغم الموقع المتأرجح للتيار ولزعيمه، بقي الأخير حقيقة عراقية عصية على التطويع الكامل، سواء في البرلمان أو في الشارع. فقد صدر عن مقتدى ما لا يحصى من علامات التذمر، وبقي الرجل زعيم شيعة الداخل، ممن لم تمسسهم ولاية الفقيه بسحرها، وممن يشعرون أن الإيرانيين تدفقوا على التشيع العراقي وأطاحوا تصدره وأضعفوا موقعه. لكن الإيرانيين وجدوا أكثر من تصريف لتذمرات مقتدى، وهم تمكنوا في أحيان كثيرة من توظيفها، ومن امتصاص تبعاتها.
لكن، أن يصل الوضع إلى حد مطالبة الأسد بالتنحي، فنحن هنا نتحدث عن مستوى مختلف من الخروج عن الموقع. فالإيرانيون، منذ أكثر من خمس سنوات، يشكل بشار الأسد العنوان الوحيد لطموحاتهم المشرقية. دفعوا بـ «حزب الله» للقتال في سبيل هذه المهمة، وأسسوا مليشيات عراقية، بعض فصائلها قريب من التيار الصدري، مهمتها الوحيدة القتال في سبيل بقاء بشار الأسد في السلطة. دفعوا عشرات البلايين من الدولارات، وخسروا علاقات مع دول مثل تركيا في سياق حماية نظام البعث. والمطالبة بالتنحي حين تكون شيعية، ومن موقع لا يُشكك في مدى تمثيليته، فإن وقعها مختلف، وما لم يتراجع الصدر عنها، وهو أمر محتمل، فهي ستكون مؤسسة لقول شيعي مختلف حول ما يجري في سوريا.
القول الشيعي المختلف هذا، سيكون بذرة خسارة طهران قيادتها الموقع الشيعي في العالم، وهذا ما لن تسمح به طبعا. وهنا علينا أن ننتظر رد فعل إيرانيا على دعوة السيد، أو توضيحا تراجعيا من قبله. فرحابة الإيرانيين بأصوات شيعية مختلفة لا تشمل القوى التي تتمتع بتمثيل من عيار الذي يتمتع به مقتدى الصدر، لا سيما إذا كان مضمون الاختلاف من نوع بقاء الأسد أو تنحيه، فهنا تلوح عقبة من نوع مختلف أمام مشروعهم.
في تراجيديا العائلة الصدرية ما يجعل التوقع صعبا، فلطالما دفعت العائلة أثمان شعور أئمتها بحصانة غير حقيقية. والد مقتدى (محمد صادق الصدر) ذهب بزعامته إلى حدّ أشعر صدام حسين أن قتله صار ضروريا، وعمه (محمد باقر الصدر) أُعدم قبله على المذبح ذاته.
الأرجح أن يصدر عن مقتدى توضيح تراجعي عما قاله للأسد، فالقضية لا تحتمل خروجا بحجم خروجه. العائلة تدرك ذلك، وإن كان السيد لا يدركه أحيانا.